صحيح أن من يكرهون كرة القدم من بين البشر قلة من بينهن بالطبع نساء العالم العربى، لكن ذلك لابد له أسباب، منها أنهم فى مناطق نائية جدا ومحرومة من كل شىء وقليلة السكان، أو تسللت الكراهية إلى البعض بسبب عقدة شخصية، ومنهم من تغيب عنه تماما قيمتها وهدفها وجدواها ويرفضون فكرة أن يتصارع نحو ثلاثين رجلا فى محاولة قد تبدو سخيفة لتسكين الكرة فى المرمى، وأيا كان السبب فالأمر المؤكد فى اعتقادى أن من يتجنبون مشاهدتها ومتابعة أحوالها وتأمل خططها وتقنياتها والأداءات الخارقة لبعض اللاعبين الأفذاذ يخسر كثيرا، وليس من شك أن هذه اللعبة الشعبية الأولى فى العالم تؤثر بشكل أو بآخر على الحياة والفكر ، وقد تتفوق على كل الألعاب دون استثناء لأنها ملعب للحرية فى الهواء الطلق بحضور ومشاهدة عشرات الملايين، وصدق من سماها الساحرة المستديرة، والاستدارة وحدها مصدر من مصادر السحر والجمال أكثر من الشكل الهرمى الشهير لأن الاستدارة حرية بلا حدود وبلا بداية أو نهاية. وبعض المثقفين يتصورون أن كرة القدم لعبة جسد فقط كما كان ينظر إليها توفيق الحكيم وغيره لكنها لغة فكر بامتياز ، وليس موفقا فيها من يعتمد فقط على القدمين، بل لابد من التفكير وكلما كان اللاعب مثقفا كان بارعا فلابد من تمتعه بالخيال وبالتوهج العقلى والدهاء والميل للاختلاف والتجديد، ولا غضاضة فى القول أنها تتفوق على كل الألعاب بأهمية ودور الذكاء، وليست مثلها التنس أو المصارعة أو ألعاب القوى أو السباحة أو الملاكمة ولا البنج بنج وربما اقتربت منها كرة السلة واليد، كما أن كرة القدم لغة فن وعلم وصناعة وتجارة واستثمار واقتصاد، ويتعذر أن نتجاهل دورها وكثير من الألعاب الرياضية فى توفير اللياقة البدنية والحيوية الجسدية فضلا عن تأثيرها على بناء شخصية متماسكة وخلق حالة من التوازن النفسى الناتجة فى الأغلب من فرص تحقيق الذات والتمتع بالشهرة والمال خاصة مع التألق. ومن المهم الإشارة إلى أن لكرة القدم ثقافة ربتها اللعبة ولاعبوها وانتشرت إلى حد كبير بين المشجعين ومنها السمات الأخلاقية وفى مقدمتها الروح الرياضية والتسامح والتعاون والانتماء والبعد عن التعصب والالتزام واحترام اللاحق للسابق والصغير للكبير وللقيادة. لقد تحققت مكانة عالمية كاسحة لكرة القدم بما يفوق كثيرا غيرها من الألعاب بسبب الحركة الدائمة للاعبين والعمل الجماعى الذى لا يحقق النتائج الطيبة فقط ولكنه شكل من أشكال الفن والإبداع وصورة من صور العمارة المتماسكة بسبب حسن التصميم والتناغم الذى لابد منه وكم من مدربين يفشلون فى تحقيق هذا الانسجام بين اللاعبين، ولذلك مهما كانت براعة اللاعبين الأفراد فلا يمكن أن ينتصروا، وهى أهم رسالة يجب أن يعيها كل المسئولين، كما أن كرة القدم نموذج رفيع من نماذج علم الإدارة ومن يتجاهلها أيا كان عمله حتى لو كان بسيطا أو منفردا يفقد القدرة على تحقيق الأهداف. كل نشاط فى الوجود هو فى الحقيقة تحرك على رقعة بأدوات وفكر من أجل تحيقيق أهداف، ومثالها الأعلى هو لعبة كرة القدم.. يتجلى ذلك فى الحروب وفى المطابخ وإصدار الصحف وإنتاج الأفلام والمسلسلات ورئاسة الوزراء بل والإجابة فى الامتحانات وإنشاء المدن والطرق وفى الأسواق والتجارة والبورصة بل وفى كتابة الرواية والقصيدة وبإمكاننا إذن دون مبالغة اعتبارها ظاهرة اجتماعية وسياسية فكم ساهمت فى الصلح بين الشعوب والجماعات وقربت بين المتنازعين، كما أنها ظاهرة فنية ووسيلة من وسائل العلاج النفسى. ويمكننا القول بأن كرة القدم مختصر بديع للحياة.. فيها كل ما فى الحياة وتزيد عنها بأنها تقدم المتعة وتنسى الهموم وتوفر النزهة وتحفز للتنافسية فلا شك أن كثيرا من المشاهدين يشاركون اللاعبين التفكير فى كيفية التمرير ولمن وكيفية إجراء المناورة. والتفكير فى إعادة الكرة للخلف طلبا للأمان أو طلبه بقذفها إلى أبعد نقطة فى اتجاه الخصم ..والكرة مفيدة للأعصاب والقلب حتى للمشاهد خاصة غير المتعصب، كما أنها مشجعة على التمنى والسعى الجاد لتحقيق الأمانى والانشغال طويلا بالأحلام حيث الآفاق مفتوحة للشهرة والعوائد المجزية والحب الجنونى الذى تكنه الجماهير للاعبى الكرة المشاهير مثل ميسى ورونالدو ورونى وزيدان وروماريو وبيكهام وقبلهم بيليه ومارادونا وبوشكاش ومولر وبلاتينى وغيرهم. ولعل تخلف الكرة العربية عن نظيرتها العالمية فى مراحل كثيرة وعدم ثبات المستوى المتألق يرجع السبب فيه دون شك إلى تجاهل العنصر الذهنى والتركيز على الأقدام وتواضع مستوى اللياقة البدنية وعدم ممارسة بعض الألعاب الأخرى وتواضع خبرة المدربين وتحيزاتهم الشخصية الملتبسة . من تحصيل الحاصل القول بأن معظم القراء يتابعون أخبار اللاعبين خاصة بورصة أجورهم العجيبة، وتغلب الدهشة الجميع عندما يعلمون أن ميسى أجره مليار جنيه ومثله رونالدو وغيرهما وتتعدد الأسماء التى تتلقى الأموال الطائلة عند البيع إضافة إلى أجورهم السنوية، ومكافآت الفوز. فى مصر خلت المدارس من ملاعب كرة القدم والموجود منها لا يشهد ممارسة للعبة واعتقدت بعض القيادات أن ذلك من أجل التعليم، والنتيجة واضحة، لا تعلم الصبية والفتيان الكرة ولا حصلوا التعليم، لأن دروس كرة القدم غابت عن المسئولين.. وقد أغرمت مثل نجيب محفوظ بكرة القدم منذ نعومة أظفارى لكنى بقيت ألعبها وأشاهدها حتى تزوجت وأنجبت وقمت فى عام 1964بتأسيس فريق لأستوديو مصر حيث كنت أعمل، وحتى الآن إذا مررت بالشوارع ولمحت أية كرة أسرعت بانتزاع ذراعى من ذراع زوجتى القابضة عليه واندفعت أقذف الكرة بكل قوة وكثيرا ما طارت بعيدا جدا والأولاد يرقبونها بفرح ثم بغيظ لأنهم يجدون صعوبة فى استعادتها . لا ينكر إلا القليلون فضل كرة القدم فى تحقيق المجد لدول صغيرة غير معروفة بأى نشاط ولا دخل أو ثروة أو صيت سياسى.. لكنها يمكن أن تحقق المكاسب من شهرتها وترفع عدد السائحين القادمين إليها بفضل أخبارها التى تطيرها فرقها الكروية وشهرة لاعبيها، فكرواتيا جلبت الكرة لها الصيت، ولأورجواى شبه المجهولة ومثلها تشيلى، ومعظم دول إفريقيا لا خبر عنها يلفت الأنظار بعيدا عن الفقر والنزاعات الداخلية غير لعبة الكرة مثل الكاميرون وغانا والسنغال وساحل العاج فضلا عن دول مجهولة مثل موزمبيق وزامبيا وغينيا والجابون وتوجو والكونغو وغيرها. لقد صدرت فى الغرب كتبُ عديدة عن اللعبة لأدباء ومفكرين مثل ألبير كامى الذى كان حارسا لمرمى فريق جامعة الجزائر وباموك ونابوكوف الذى كان أيضا حارسا للمرمى وجورجى أمادو وسواهم ، لكن أشهر الكتب كانت قصة "اكتئاب زيدان" للكاتب البلجيكى جان فيليب توسان عن ظروف حادثة ضرب اللاعب الفرنسى للإيطالى ماترازى بالرأس فى مونديال 2006، ورغم ممارسة نجيب محفوظ للكرة إلا أنه لم يكتب عنها، ولم أكتب شيئا رغم غرامى بها منذ نعومة أظفارى، وأعترف بأنى بعد أن بلغت الأربعين وأصبحت صاحب كتب ومؤلفات ونلت بعض التقدير الأدبى بفضل القصة والرواية إلا أنى تمنيت لو دام لعبى كرة القدم التى كان يمكن أن تحقق لى شهرة كبيرة ومالا كثيرا بديلا عن جنيهات قليلة تطرق بابى على استحياء، فقد كنت معروفا بملكات كروية كالسرعة والمناورة و"التغزيل" وحسن التمرير لولا أن حادثا مؤسفا لا أنساه جرى أوائل الستينيات حيث ارتطمت قذيفة شحتة لاعب الإسماعيلى برأس حارس مرمانا فى فرقة شباب بنها ولم يستطع إكمال المباراة وأصر المدرب أن أقف مكانه، وسرعان ما انهمرت الكرات على مرماى الذى منى بعشرة أهداف، ومن غيظى أخذت الكرة وحدى ولم أمررها لأى زميل وغزّلت كل فرقة الإسماعيلى بمن فيهم رضا والعربى وميمى وأحرزت هدفا وحيدا ولم يكن أحد هناك ليصور تلك اللحظة التاريخية التى لا يدانيها أداء ميسى أو فيجا أو دى ستيفانو أو الخطيب.