نقلا عن اليومى.. سطعت النجوم الزاهرة فى سماء القاهرة الحديثة متلألئة بالتخطيط على النمط الأوروبى، وذلك فور تولى الخديو إسماعيل حكم مصر عام «1863 - 1879»، حيث أمر بشق الشوارع الواسعة وتشييد الميادين الفسيحة، فأراد أن يضع لمساته فى مقر الحكم والانتقال من الشكل التقليدى المتبع فى العصور الوسطى، حيث الإقامة فى القلاع الحصينة إلى القصور الحديثة، فاشترى قصرا صغيرا من أرملة أحد القادة العسكريين فى عهد محمد على يدعى «عابدين بك» وأمر بهدمه وأضاف إليه أراضى واسعة حتى وصلت المساحة المخصصة لبناء القصر الذى حافظ على اسم مالكه القديم «عابدين» إلى 24 فدانا! أسند إسماعيل مهمة التشييد والتصميم لمهندس يدعى «ليوروسو» فاختار أكفأ المهندسين لمعاونته فى تشييد القصر فظهر صرح الحكم فى مصر لأول مرة ليكون رمزا للتحول من أسوار قلعة صلاح الدين إلى قاهرة الزمن الراقى، فكان للقصر فى قلوب المصريين أهمية كبيرة، لأنها كانت المرة الأولى التى يترك فيها الحاكم برجه بالقلعة ليقيم فى قلب العاصمة، ويحتك بالمواطنين. وبعد 10 سنوات من العمليات الإنشائية وبالتحديد فى عام 1872 اتخذه الخديو إسماعيل مقرًا للحكم. رغم ما يحمله ذلك القرار من نية لدى الخديو إسماعيل للالتحام مع الشعب، والتخلى عن البرج العاجى الذى اعتاد المصريون انعزال حكامهم فيه، فإنه لم يبخل على القصر بمظاهر الفخامة والبذخ المبالغ فيها، فقد بلغت تكلفة بناء القصر وتصميمه مائة ألف جنيه مصرى من الذهب الخالص فضم بين جدرانه 500 غرفة وجناح وخمسة متاحف موزعة على طابقين: الأول يضم مقر الحرس والتشريفة والخدم إضافة إلى المخازن. أما الطابق العلوى فيضم «السلاملك»، وهو خاص باستقبال الزوار والاحتفالات والمقابلات الرسمية، إضافة إلى الحرملك، وهو جناح خاص بالعائلة والسيدات، ليجمع قصر عابدين بين الحرملك والسلاملك فى مبنى واحد، على عكس القصور الأخرى التى كانت تضم أحدهما، ومن أشهر وأضخم بوابات القصر باب يسمى باريس، وهذا الباب يؤدى إلى المدخل الرئيسى للحرملك. يحتوى قصر عابدين على قاعات مميزة بألوان جدرانها، فمنها الأخضر والأحمر والأبيض تستخدم فى استقبال الوفود الرسمية أثناء زيارتها لمصر إضافة إلى أن القصر به مكتبة مذهلة تضم بين رفوفها ما يقرب من 55 ألف كتاب. ويضم القصر مسرحا مزودا بمئات الكراسى المذهبة، وفيه أماكن معزولة بالستائر خاصة بالسيدات، ويستخدم فى العروض المسرحية للزوار والضيوف. اللافت للانتباه أن بالقصر صالونا أطلق عليه اسم قناة السويس، أنشأه الخديو إسماعيل خصيصا لإقامة الاحتفال بافتتاح قناة السويس، ولكن الخديو غير مكان الاحتفال، ليكون على ضفاف القناة نفسها، وهناك الجناح البلجيكى الذى صمم لإقامة ضيوف مصر المهمين، وسمى كذلك لأن ملك بلجيكا هو أول من أقام فيه. ورغم أن الخديو إسماعيل قرر فى عام 1879 تمليك القصر لزوجاته الثلاث فإن فى عهد الخديو توفيق «1879 - 1892» وفور توليه الحكم مباشرة أصدر قانونا رسميا ينص على أن القصور الرسمية كلها ملكية لمصر وينبغى أن تظل محلا لإقامة الأسرة المالكة دون أن تكون ملكا لها. وفى يوليو عام 1891 تعرض قصر عابدين لحريق أتى على بعض محتوياته، ليأمر الخديو توفيق بإعادة إصلاح ما تعرض للتلف فى القصر على الفور. وفى عهد الخديو عباس حلمى الثانى «1892 - 1914»، تم تجديد القصر ورصدت ميزانية لذلك تقدر بمائة واثنين وسبعين ألف جنيه مصرى، وتخصيص ثمانية آلاف وأربعمائة وثمانين جنيها مصريا للإصلاحات والتجديدات الدورية. وفى عهد الملك فؤاد «1917 - 1936» كان المعمارى فيروتشى بك هو المسؤول عن بناء متاحف القصر وتطويرها، وفى عهد الملك فاروق «1936 - 1952» حتى قيام ثورة 1952 ظل مهتما اهتماما بليغا بالمتاحف ومقتنياتها حتى تنازله عن العرش. تحول القصر من الملكية إلى الجمهورية، وتعاقب عليه 6 ملوك وشهد أسخن الأحداث، حيث اتخذه بعد ذلك الرئيس السادات مقرا للحكم بعد أن تركه الرئيس جمال عبدالناصر إلى قصر القبة بمنشية البكرى. وعنى الرئيس الأسبق مبارك بالقصر، ففى عصره تم تجديده وإعادته إلى ما كان عليه.. كما تم ترميم المتاحف الموجودة به لأهميتها التاريخية والأثرية.. وحول «مبارك» قاعة العرش التى كانت فى عهد الخديو عباس حلمى الثانى مكتبا خاصا به وتم تحديث متحف الأسلحة وعرض فيه كل الأسلحة التى تلقاها بصفته طوال فترة حكمه. وتم إنشاء متحف بداخله خاص بمقتنيات مبارك وحرمه، وهى عبارة عن بعض الهدايا التى تلقاها فى المناسبات الوطنية المختلفة وفى أثناء جولاته فى بلدان العالم. وهكذا يظل قصر عابدين مقر الحكم فى مصر عبر التاريخ محتفظًا بآثار تسأل عن الحاكم التاسع هل يتخده مقرا له أم يهجره ويسكن غيره؟