إن الناس يكِّدون ليلا ونهارا، وقد يلتحقون بأكثر من عمل ويضحون بأوقات راحتهم وساعات نومهم لكى يؤمنوا لأنفسهم وأولادهم حياة كريمة فى مستقبلهم وهم يدخلون مشاريع ويتاجرون ويتحملون المشقة والمعاناة لكى يطمئنوا على أنفسهم فى كبرهم، وعلى أولادهم من بعدهم. ولن يتهم أحدهم بالجنون إذا أنفق شبابه وصحته فى هذا لكى يطمئن على مستقبله ومستقبل أبنائه، وهم يدخرون المال اليوم حتى يجدونه غدا عندما يحتاجون ولا يألون جهدا ولا يدخرون وقتا ولا يتركون سبيلا للوصول للمال إلا سلكوه، حتى إن بعضهم لا يبالى أى الطرق يسلك وأى الرزق يكسب وأى الكسب يترك ويزهد، ولا يشغل باله أمن حلال أو حرام ينفق ومن طيب أو خبيث يدخر لنفسه وولده. يقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب"، فإن كان الأمر على هذا النحو وكان ادخار اليوم هو أمان للمستقبل للشخص وولده فى تلك الحياة القصيرة التى لا يعلم أحد متى تنتهى إلا الله، ولا يملك أحد أن يرد القضاء إذا انقضى الأجل فإنه من باب أولى أن يكدّ الإنسان ويشتغل ولا يضيع فرصة أو يدخر جهدا فى تأمين حياته هو وذريته فى الآخرة التى هى حياة طويلة أبدية لا نهاية لها ونعيمها دائم لا انقطاع له وعذابها دائم لا فكاك أو خلاص منه ولا فرصة للعمل والادخار ولا فرصة لتأمين المستقبل فى الآخرة إلا فى تلك الحياة التى نحياها، والتى مهما طالت قصيرة ومهما تمتعنا بجمالها فهو زائل لا محالة. يقول تعالى (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم)، فالإنسان لكى يدخر ما يؤمن به نفسه وولده سواء للدنيا وللآخرة لابد أن يتأكد أنه حلال طيب لا شبهة فيه، ولا مكان فيه لفلس من حرام والله، عز وجل، لم يحرم علينا السعى للغنى ولكسب المال الحلال، ولم يحرم علينا الاستمتاع بطيبات ومتع الحياة الدنيا ما دامت حلالا (واحل لكم الطيبات وحرم عليكم الخبائث)، بل على العكس أحل لنا متع الدنيا ما دامت حلالا (قل من حرم زينة الله التى اخرج لعباده والطيبات من الرزق), ولكنه حرم علينا المال الخبيث الذى جاء من طريق حرام مخالف لشرع الله فالقرش الحرام يأكل معه عشرة من الحلال ويمحق بركة الرزق كله. "كل جسد نبت من سحت فالنار اولى به".. فما بال من غذى بالحرام وترعرع على الحرام ولا يدرك أن من يزرع الحنظل لا يجنى إلا العلقم، وكثيرا ما نرى الرجل يرتع فى الدنيا ينهب الحرام نهبا ويمتلئ جشعا وشرها للمال حتى يستمر فى أكل مال الضعيف واليتيم والمريض وذا الحاجة، ولا يترك مالا خبيثا إلا أكله ولا رشوة إلا سعى إليها ولا ربا إلا أسرع إليه.. يقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم "رب أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء ومسكنه حرام وملبسه حرام ومأكله حرام وغذى بالحرام فأنّى يستجاب له". يفعل ذلك كله ولا يخش الله ويبرر لنفسه بأنه يؤمن لنفسه وولده السعادة والحياة حتى إذا انقضى الأجل لم ينفعه ماله وولده الذين يتركوه خلفهم ويمضون بنفس النهم للمال، لا يهم كل واحد منهم إلا نفسه وميراثه مثل أبيهم تماما، يسرفون ويضيعون إرثه من المال فلا يبقى المال ولا يعود العمر لإصلاح ما فات ولا تؤمن حياة الأبناء فمن محقت بركة رزقه فلا بركة فى ماله ولا صحته ولا عياله. والخير كل الخير أن يترك العبد المال الطيب الحلال الذى لا يشقى هو به فى قبره ويفتضح به يوم يقوم الأشهاد ولا يشقى به بنوه من بعده فى الدنيا فإن الله طيب لا يقبل لا طيبا. وإن كان كل إنسان لابد أن يدخر فليدخر لدنياه ولآخرته الكسب الحلال والصدقة النقية التى لا شهرة فيها، ولا من ولا أذى لخلق الله (يمحق الله الربا ويربى الصدقات)، فالصدقة الطيبة (كمثل حبة فيها سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء)، والإنسان يعيش فى ظل صدقته ويلقى الله فى ظل صدقته ويبارك له فى رزقه ويتضاعف بالصدقة وترتفع درجاته فى الجنة بالصدقة ويبارك فى صحته وعمره بالصدقة وينجو من العذاب بالصدقة ويبارك له فى ذريته فى حياته وبعد مماته بالصدقة، ويخلد فى جنان الخلد بالصدقة, وينجيه الله وولده من كل سوء وبلاء بالصدقة. يقول نبينا الكريم، صلى الله عليه وسلم "من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة"، فما أيسر أن ينال الإنسان سعادة الدنيا والآخرة، ويأمن على نفسه وذريته.