بكثير من الارتباك استقبل السياسيون اللبنانيون تصريحات زعيم الحزب الاشتراكى اللبنانى وليد جنبلاط، بما فيها من مراجعات وتراجعات حول تحالفه مع قوى الرابع عشر من آذار الذى شكله تيار المستقبل مع قوى سياسية أخرى على رأسها الكتائب والشيوعيون والقوات اللبنانية. ورغم أن التاريخ السياسى لجنبلاط حافل بالتقلبات والمفاجآت والتحالفات غير الدائمة، لكن التحليل الموضوعى لهذا التغيير الكبير تنبغى مراجعته بشكل سياسى بعيدا عن المواقف الشخصية، لأن هذا التغيير، إذا صحت دوافعه، ربما يكون الحجر الأول والأثقل الذى يلقى فى وجه الطائفية السياسية التى تحكم لبنان. لم يعلن جنبلاط بشكل رسمى فض التحالف مع قوى الرابع عشر من آذار، لكن دعوته لمراجعة هذا التحالف، وعودة الحزب الاشتراكى اللبنانى إلى أصوله السياسية، قد تعنى فيما تعنى أن لبنان فى حاجة إلى إعادة فرز جديد على أساس المواقف السياسية وليس المذهبية. تكون تحالف الرابع عشر من آذار عقب اغتيال رئيس الوزراء اللبنانى رفيق الحريرى، من عدد من القوى السياسية المناهضة للتواجد السورى العسكرى فى لبنان، ولسيطرة سوريا على القرار السياسى اللبنانى، ورغم أنه رفع شعار كشف حقيقة اغتيال الحريرى، لكن التحالف الذى تشكل من فرقاء سياسيين نجح فى أهدافه المعلنة وغير المعلنة من حيث جلاء القوات السورية، وتخفيف قبضة دمشق على الحكم فى بيروت إلى حد كبير. كما نجح تحالف الرابع عشر من آذار فى تحويل اغتيال الحريرى إلى ملف دولى، وتشكلت محكمة دولية لمحاكمة المتهمين فى هذه القضية بعد تحقيقات استمرت عدة سنوات باشرها أكثر من محقق دولى مفوض من الأممالمتحدة. نظريا لم تعد الأسباب التى تشكل من أجلها تحالف الرابع عشر من آذار قائمة، مما يستدعى عودة كل تيار سياسى إلى قواعده ومبادئه الأساسية، فالحزب الاشتراكى الذى أسسه الراحل كمال جنبلاط والد الزعيم الدرزى وليد جنبلاط عليه العودة كما كان، ليس باعتباره ممثلا لأغلبية الدروز وإنما لأنه حزب اشتراكى. ونفس الحال تنطبق على الحزب الشيوعى وعلى القوات اللبنانية والكتائب، كما ينطبق الوضع على تحالف الثامن من آذار الذى يقوده حزب الله ومعه حركة أمل الشيعيتن وتيار العماد ميشال عون المسيحى المارونى، وبعض القوى الأخرى مثل الحزب الناصرى التى جمع بينها تحالف مع سوريا لم يعد مؤثرا فى الداخل اللبنانى الآن. صحيح أن الانتخابات النيابية التى جرت مؤخرا فى لبنان عمقت الفرز الطائفى فى لبنان الذى يقوده فعليا أربعة زعماء على أساس طائفى هم سعد الحريرى للسنة وحسن نصر الله للشيعة وميشال عون للمسيحيين الموارنة ووليد جنبلاط للدروز، فإن استمرار مثل هذا التقسيم السياسى على أساس طائفى لا ينبئ باستقرار سياسى فى لبنان فى المستقبل، بل على العكس يزيد من الطائفية ويكرسها أكثر من أى وقت مضى. صحيح أيضا أن لبنان منذ الاستقلال وهو أسير لزعامات سياسية قائمة على أساس طائفى، حتى أن اتفاق المصالحة الذى تم فى الطائف السعودية لإنهاء الحرب الأهلية تم أيضا على أسس طائفية، لكنه آن الآوان لاستغلال عودة جنبلاط إلى قواعده الاشتراكية، أو هكذا أعلن، لصياغة لبنان جديد قائم على المواطنة المتساوية، تعززه أحزاب سياسية عامة لا تعبر عن الدين أو المذهب، وإنما عن برنامج سياسى يعلو فوق الطائفية والمناطقية والزعامة السياسية والبيت والأسرة التى ينتمى إليها الزعيم السياسى. وليد جنبلاط حرك المياه الراكدة، لكن هل ستستمر المياه فى الجريان؟.. أم أن دوامة الطائفية فى لبنان أكبر وأعمق وأرسخ من أى حراك سياسى؟.. ربما هذا هو السؤال المهم والذى ينبغى على جنبلاط نفسه الإجابة عليه بخطوات عملية، حتى لا تصبح مراجعاته مجرد كلمات تشق تحالف الرابع عشر من آذار دون أن تحدث تغييرا فى التركيبة السياسية المسيطرة فى لبنان حكومة ومعارضة.