براتب 5000 جنيه.. وزارة العمل تعلن عن وظائف جديدة بالقاهرة    45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الثلاثاء 21 مايو 2024    محافظ جنوب سيناء يلتقى عددا من رؤساء وأعضاء البعثات الدبلوماسية الأفريقية    بوريل يعلق على قرار «الجنائية الدولية» بشأن إسرائيل وحماس    مستشار الأمن القومي الأمريكي يطالب إسرائيل بالسماح بدخول المساعدات إلى جميع أنحاء غزة    ترتيب الدوري المصري 2023-2024 قبل مباريات اليوم الثلاثاء    عباس أبو الحسن يتكفل بعلاج المصابتين في حادث الدهس بسيارته| خاص    ننشر بالأسماء ضحايا حادث العقار المنهار بالعياط    مصرع طفل وإصابة شقيقه بحلوان.. والسبب «حلة شوربة» ساخنة    الثلاثاء 21 مايو.. توقعات الفلك وحظك اليوم لكافة الأبراج الفلكية    شهداء وجرحى جراء غارة إسرائيلية على منزل لعائلة "أبو طير" شرق خان يونس    اليوم.. طلاب الشهادة الإعدادية بالشرقية يؤدون امتحان مادة الهندسة    خالد عبد الغفار: مركز جوستاف روسي الفرنسي سيقدم خدماته لغير القادرين    قبل طرحه في السينمات.. أبطال وقصة «بنقدر ظروفك» بطولة أحمد الفيشاوي    وزير الصحة: لا توجد دولة في العالم تستطيع مجاراة الزيادة السكانية ببناء المستشفيات    ضياء السيد: مواجهة الأهلي والترجي صعبة.. وتجديد عقد معلول "موقف معتاد"    أمير هشام: الكاف تواصل مع البرتغالي خوان لإخراج إياب نهائي دوري أبطال إفريقيا    صعود مؤشرات الأسهم اليابانية في جلسة التعاملات الصباحية    الاحتلال الإسرائيلي يشن غارات كثيفة شرقي مدينة رفح الفلسطينية جنوبي قطاع غزة    تفاصيل طقس الأيام المقبلة.. ظاهرة جوية تسيطر على أغلب أنحاء البلاد.. عاجل    مندوب فلسطين أمام مجلس الأمن: إسرائيل تمنع إيصال المساعدات إلى غزة لتجويع القطاع    فرصة للشراء.. تراجع كبير في أسعار الأضاحي اليوم الثلاثاء 21-5-2024    أحمد حلمي يتغزل في منى زكي بأغنية «اظهر وبان ياقمر»    مندوب مصر بالأمم المتحدة: العملية العسكرية في رفح الفلسطينية مرفوضة    وزير الصحة: صناعة الدواء مستقرة.. وصدرنا لقاحات وبعض أدوية كورونا للخارج    وزير الصحة: 700 مستشفى قطاع خاص تشارك في منظومة التأمين الصحي الحالي    الطيران المسيّر الإسرائيلي يستهدف دراجة نارية في قضاء صور جنوب لبنان    هل يرحل زيزو عن الزمالك بعد التتويج بالكونفدرالية؟ حسين لبيب يجيب    «في حاجة مش صح».. يوسف الحسيني يعلق على تنبؤات ليلى عبداللطيف (فيديو)    وزير الصحة: العزوف عن مهنة الطب عالميا.. وهجرة الأطباء ليست في مصر فقط    منافسة أوبن أيه آي وجوجل في مجال الذكاء الاصطناعي    محمود محيي الدين: الأوضاع غاية في التعاسة وزيادة تنافسية البلاد النامية هي الحل    مصطفى أبوزيد: احتياطات مصر النقدية وصلت إلى أكثر 45 مليار دولار فى 2018    الأنبا إرميا يرد على «تكوين»: نرفض إنكار السنة المشرفة    «سلومة» يعقد اجتماعًا مع مسئولي الملاعب لسرعة الانتهاء من أعمال الصيانة    مبدعات تحت القصف.. مهرجان إيزيس: إلقاء الضوء حول تأثير الحروب على النساء من خلال الفن    وكيل "صحة مطروح" يزور وحدة فوكة ويحيل المتغيبين للتحقيق    "رياضة النواب" تطالب بحل إشكالية عدم إشهار22 نادي شعبي بالإسكندرية    «الداخلية»: ضبط متهم بإدارة كيان تعليمي وهمي بقصد النصب على المواطنين في الإسكندرية    موعد عيد الأضحى 2024 في مصر ورسائل قصيرة للتهنئة عند قدومه    رفع لافتة كامل العدد.. الأوبرا تحتفي وتكرم الموسيقار عمار الشريعي (تفاصيل)    دعاء في جوف الليل: اللهم ابسط علينا من بركتك ورحمتك وجميل رزقك    بعد ارتفاعها ل800 جنيها.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي «عادي ومستعجل» الجديدة    ميدو: غيرت مستقبل حسام غالي من آرسنال ل توتنهام    طبيب الزمالك: إصابة أحمد حمدي بالرباط الصليبي؟ أمر وارد    الدوري الإيطالي.. حفل أهداف في تعادل بولونيا ويوفنتوس    إيران تحدد موعد انتخاب خليفة «رئيسي»    إجازة كبيرة رسمية.. عدد أيام عطلة عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات لموظفين القطاع العام والخاص    مصطفى أبوزيد: تدخل الدولة لتنفيذ المشروعات القومية كان حكيما    أطعمة ومشروبات ينصح بتناولها خلال ارتفاع درجات الحرارة    على باب الوزير    كأس أمم إفريقيا للساق الواحدة.. منتخب مصر يكتسح بوروندي «10-2»    سعر الدولار والريال السعودي مقابل الجنيه والعملات العربية والأجنبية اليوم الثلاثاء 21 مايو 2024    وزير العدل: رحيل فتحي سرور خسارة فادحة لمصر (فيديو وصور)    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جميل مطر يكتب .. لبنان على حافة هاوية الانتخابات
نشر في الشروق الجديد يوم 19 - 04 - 2009

ألح السؤال، لماذا هذا الهدوء فى لبنان والبلاد تقف على هاوية انتخابات برلمانية؟ وألحت أسئلة أخرى بدت هامشية فى حينها، فإذا بها بعد حوار قصير تصير جوهرية.
من هذه الأسئلة السؤال عن الأسباب التى جعلت عديدا من السياسيين اللبنانيين يغيرون مواقفهم السياسية فى اتجاهات شتى، وكيف صار فجأة الزعيم السنى سعد الحريرى متحدثا لبقا وخطيبا مفوها يشد انتباه الجماهير؟.
وما سر هذا الإقبال منقطع النظير من جانب أغنياء الخليج على الاستثمار العقارى والمصرفى فى لبنان المقبل على انتخابات والمنفتح على الاقتصاد العالمى وأزمته المالية! وبما أننى لا أقوى على التعايش طويلا مع أسئلة ملحة، قررت أن أسعى وراء إجابات، هناك فى مواقع الأحداث، ولا انتظرها هنا فتأتى باردة أو مشوهة أو مزوقة.
* * *
(1)
وجدت مطار بيروت كما تركته منذ شهر نظيفا يعمل بكفاءة وانضباط، ودار فى خاطرى بطبيعة الحال أن هذه الحالة المثيرة للإعجاب تخفى وراءها مسائل وعلاقات بالغة التعقيد والتشابك. ففى هذا المطار تجتمع السياسة والمال والجاسوسية والتكنولوجيا المتطورة والأمن فى منظومة أظن أنها فريدة بين غيرها من مطارات العالم.
إن المتابعين للشأن اللبنانى لا شك يذكرون «الصدام الذى لم يقع» حين طالب فريق فى الحكومة طرد خبراء من العاملين فى المطار ونزع كابلات وكاميرات تصوير وأجهزة استماع أقامها وأشرف عليها فريق آخر من فرقاء الصراع السياسى فى لبنان، لمتابعة حركة السفر والبضائع والأسلحة والمتفجرات التى تصل إلى لبنان أو تخرج منه. هكذا أصبح مطار لبنان طرفا من أطراف «حروب المعابر» الدائرة فى أنحاء شتى من العالم العربى.
وفى الطريق من المطار إلى الفندق، كان هناك مشهد لم يكن موجودا قبل شهر. تذكرت هذه الطريق التى كثيرا ما سلكناها ذهابا وإيابا على امتداد سنوات طويلة.
أذكرها وقد أقيمت عليها متاريس تتوقف عندها السيارات ليقوم بتفتيشها جنود سوريون. يطلبون هويات ركاب السيارات ويدققون فى تأشيرات الدخول والخروج التى سبق أن دققها ضباط لبنانيون فى المطار ويسألون أسئلة شتى، وكثيرا ما طلبوا من راكب إنزال حقائبه والذهاب مع أحدهم إلى مكان قضى فيه البعض أياما وشهورا.
فى تلك الأيام كانت صور الرئيس الراحل حافظ الأسد وإلى جانبها صورة باسل الأسد الوريث الذى كان يعده والده لحكم سوريا، وإلى جانبهما آلاف من الملصقات تمجد السياسة السورية وترحب بالوجود السورى فى لبنان. كان الطريق من المطار إلى العاصمة طريقا عسكريا، تحس خلال المرور فيه بانفعالات الغضب وتشم رائحة الكراهية.
هذه المرة، اكتست جدران على الطريق برسومات لقلوب باللون الأحمر وسهام كيوبيد وكلمات غزل رقيق وعبارات تدعو الناس إلى الحب. اختفت المتاريس باستثناء واحد يقف عليه جنديان لبنانيان يؤديان تحية دافئة إلى ركاب السيارات، ترتفق بابتسامات تعبر عن هدوء نفس واطمئنان.
الطريق هادئة وسالكة، وأغلب المارة لا يعرفون أنه على بعد مئات الأمتار توجد معدات وأفراد مدربين على أحدث أساليب الهجوم والدفاع، يقفون على أهبة الاستعداد لمنع وقوع هذه الطرق الحيوية فى أيدى خصوم يضمرون الشر لحزب الله أو أعداء ينفذون خططا لتخريب لبنان.
* * *
أما بيروت فتستقبل الزائر بملصقات الانتخابات وإن مازالت قليلة جدا ومتباعدة، فالانتخابات مقرر لها أن تجرى بعد شهر وأيام، ولكن تستقبله بحركة مرور غير عادية ونشاط اقتصادى معقول وفنادق ومطاعم ومقاهى أصحابها سعداء بنسب الإشغال فيها، وإن كان الجميع يتوقع انحسارا فى الإشغالات مع كل يوم يقترب من موعد الانتخابات، ولكن يعرف أهل لبنان أن الانتخابات يرافقها دائما الرواج، وترافقها الرغبة فى الإنفاق، وتأتى هذه المرة ومعها السياح الخليجيون.
(2)
لا حديث فى لبنان هذه الأيام يعلو فوق حديث الانتخابات. رأيت يوم وصولى وجوها ارتسم عليها التعجب. كثيرون مندهشون. المؤيدون والمعارضون على حد سواء يتبادلون الأسئلة والإجابات منذ أن عقد تيار المستقبل مؤتمرا شعبيا موسعا ليعلن فيه سعد الحريرى، ابن الرئيس الراحل رفيق الحريرى وزعيم التيار، أسماء مرشحى التيار فى الانتخابات، لم تكن الأسماء التى أعلنت سبب الاندهاش، إنما كان سعد نفسه وخطابه. وقف سعد منتصبا طول مدة إلقاء الخطاب، كما لم ينتصب من قبل، كان ممتلئا بالثقة فى النفس، وكان الخطاب معتدلا ومتميزا فى الأسلوب والصياغة. كان الإلقاء ملفتا، لم يخطئ سعد فى النحو، وكان معروفا بأخطائه الرنانة، لم يتلعثم وهو المعروف بكثرة التلعثم.
لم يتردد فى اختيار كلمة أو عبارة، بينما كانت شهرته أنه كثير التردد والتخبط والتنقل بين الفصحى والعامية. حتى «عاميته» كانت عامية من لم يتعلم العربية إلا متأخرا، أو من تعلمها فى دولة أوروبية. لم ينظر إلى ورقة على امتداد مدة إلقاء الخطاب، ولم تكن مدة قصيرة.
قيل فى الشرح والتفسير أن سعد الحريرى أنهى للتو تدريبا مكثفا استعدادا لانتخابات سيتحدث فيها أمام الناخبين كثيرا وطويلا، وأنه تلقى دروسا فى اللغة والسياسة وفنون مخاطبة الجماهير وخضع لإجراءات هدفها تجميل صورته وهيئته.
قال أحد الخبثاء: إن سعد استخدم الجهاز الذى استخدمه باراك أوباما يوم «التنصيب»، حيث تقوم سماعة استماع مختفية بذكاء فى الأذن بإملاء الخطاب كلمة كلمة، دون حاجة للنظر إلى ورق أمامه أو التفكير فيما يجب أن يقول.
وقيل فى جلسة مغلقة: إن سعد الحريرى مطمئن أمنيا ومرتاح نفسيا منذ أن أبلغته جهات خارجية أن وعودا وصلتها تؤكد نية خصوم سعد وتيار المستقبل أن تمر الانتخابات بسلام ولا يحدث فيها ما يعكر الأمن، ووعودا بأن لا تلجأ أطراف بعينها إلى إثارة الأوضاع لفرض حالة من الفوضى أو الارتباك تضيف إلى نفوذ تيارات سياسية أو شعبيتها على حساب تيارات أخرى.
فى اليوم التالى سافر سعد فجأة إلى السعودية، وفى اليوم نفسه أعلن فؤاد السنيورة رئيس الوزراء ترشيحه لمنصب نائب فى البرلمان القادم عن مدينة صيدا. وفور إعلان خبر السفر والترشيح اشتعلت أجواء الشائعات فى بيروت، لماذا السفر فجأة إلى السعودية؟ ولماذا الترشيح المفاجئ للسنيورة عن تيار المستقبل؟ وماذا سيكون وقع خبر الترشيح على الوضع السياسى فى صيدا خاصة وفى الجنوب عامة وعلى الانتخابات ككل؟
* * *
تراوحت التفسيرات، كنت سألت أصدقاء نافذين ومطلعين على بعض أسرار المصرف المركزى وأسواق المال سؤالا مباشرا وصريحا: هل وصلت من الخارج الأموال المخصصة للانتخابات؟ سألت السؤال لأنه السؤال الذى يتردد على كل لسان فى بيروت، ولأنه السؤال الذى سوف تحدد إجابته طبيعة الجولة الانتخابية المقبلة ودرجة الإقبال عليها وحماسة الناس لها، وسباق المتنافسين فيها، فضلا عن أن هذه الأموال مطلوبة لتعويض النقص فى عائدات المغتربين اللبنانيين وحاجة الأسواق لها.
جاءت الردود متحفظة، إذ لم يكن قد وصل من الأموال، حسب الإجابات سوى دفعات أولى من دولة قطر، ويتوقع بعض الناس أن تكون زيارة سعد الحريرى للرياض قد أثمرت قرارا بالتعجيل لإرسال أموال موعودة منذ شهور.
سمعت، بين ما سمعت، أن غياب السفير السعودى، الذى جرت ترقيته إلى منصب وزير الإعلام فى المملكة، ربما كان السبب فى تأخير صرف الأموال لمستحقيها، باعتبار أن لا أحد فى السفارة السعودية فى بيروت مفوض لتوزيع أموال ضخمة على شخصيات أوزان بعضهم ثقيلة.
ومن يعرف لبنان واللبنانيين جيدا يعرف براعتهم، وبخاصة الإعلاميون منهم، في«صنع» الأخبار إن عزت الأخبار وندرت، ويبدو أن قصة سفر سعد لاستعجال الأموال المطلوبة للانتخابات التى بدونها سيكون إجراؤها صعبا إن لم يكن مستحيلا، لم تكن كافية لإرضاء فضول الإعلاميين والسياسيين. ففى ساعات معدودة كان خصوم سعد الحريرى يهمسون بقصة عن غضب المملكة على سعد وأن سفره كان للشرح وتبرير أشياء وتطورات.
قيل مثلا إن مسئولين فى المملكة عاتبون، وفى صياغة أخرى، غاضبون؛ لأن سعد الحريرى كان أحد أهم أسباب التشرذم فى القيادات السنية فى السنوات الأخيرة. يتحدثون عن أن سعد بخلافته لرفيق الحريرى استبعد من ساحة قيادة الطائفية السنية شخصيات لها تاريخ ووزن، أو أن هذه الشخصيات شعرت بأن الدول الضامنة لطائفة السنة لم تعد راغبة فيهم وفضلت عليهم سعد.
أين سليم الحص وتمام سلام وغيرهما من قادة بيروت؟ وأين ميقاتى وكرامى وغيرهما من قادة طرابلس، وأين عبدالرحيم مراد زعيم سنة البقاع وأين أسامة سعد وغيره من قادة صيدا؟ كل هؤلاء لا يلعبون الدور الذى يستحقونه فى الحياة السياسية اللبنانية، باعتبارهم قادة السنة فى لبنان.
ويأتى الرد سريعا من آخرين يقولون إنه إذا كان هذا الأمر صحيحا فالمسئول عنه الزعيم الراحل رفيق الحريرى، الذى كان الزعيم السنى الأثقل وزنا منذ أن دخل معترك السياسة قادما من السعودية، وبالتحديد منذ انعقاد مؤتمر الطائف الذى شاركت فيه جميع الطوائف وتوصلت فيه إلى صيغة تعايش حديث فى لبنان.
قيل أيضا إن المملكة عاتبة ليس فقط بسبب ما آل إليه حال زعماء السنة، ولكن أيضا ما آل إليه شعار «واسنتاه»، ففى وقت حققت فيه الطائفة الشيعية مكانة متقدمة وصارت تلعب دورا مؤثرا على المسرح السياسى والاجتماعى فى لبنان وارتفع عاليا شعار «واشيعتاه» بعد أن ظل لعقود متعددة خافتا وخجولا حين كان أهل الشيعة فى لبنان مشتتين يتحكم فيهم وفى مصيرهم عدد محدود من عائلات كبار الإقطاعيين، مثل عائلتى عسيران والأسعد، تتبادل فيما بينها تمثيل الطائفة دون أن تعمل على نشر التعليم بين أبنائها أو رفع مستواها الاجتماعى.
ويتردد حول الشأن المتعلق بتراجع شعار «واسنتاه» أن سعد تلقى نصائح تشير عليه بضرورة التفاهم، إن لم يكن الإسراع بعقد تحالف، مع الجماعة الإسلامية. وكان سعد ومستشاروه المقربون، فيما سمعت، رافضين هذه النصيحة خوفا من ردود فعل سلبية من جانب حلفاء تيار سعد من المسيحيين والدروز تحفزهم نصائح من جانب مسئولين مصريين ترددوا على لبنان خلال العام المنصرم، وبالتحديد منذ أن وقع صدام عنيف بين الجيش اللبنانى وقوى مسلحة تمثل جماعات وتنظيمات إسلامية.
وكسريان النار فى الهشيم سرت شائعة أخرى تردد بدون هوادة أن زيارة سعد الحريرى للسعودية كانت لها صلة بترشيح فؤاد السنيورة رئيس الوزراء نائبا عن مدينة صيدا فى اليوم السابق على سفر سعد.
أسر لى صديق صيداوى بأن إعلان ترشيح السنيورة هز صيدا وضواحيها من الأعماق. إذ جاء رد فعل القيادات الشيعية فى صيدا وفى معظم مناطق الجنوب على الترشيح غاضبا باعتباره إجراء يهدد السكينة التى سادت العلاقات بين الطائفتين فى الجنوب، ويثير احتمالات مواجهة أو تصعيد فى الخلافات التى ستشتعل ولا شك خلال الحملة الانتخابية.
لا ينسى أهل الجنوب، وأؤكد من جانبى أنهم لن ينسوا فى المستقبل للسنيورة مواقفه من العدوان الإسرائيلى فى يوليو 2006. ولا ينسى فؤاد السنيورة لمعظم أهل الجنوب موقفهم من احتلال حزب الله لأحياء فى بيروت خلال أزمة المطار فى العام الماضى، وهى الأزمة التى انتهت بإقرار حق حزب الله المشاركة فى إجراءات حفظ الأمن فى مطار بيروت وضواحيه.
من ناحية أخرى، ظهرت بوادر التوتر بين فريقين من أهل السنة فى صيدا فور إعلان ترشيح السنيورة عن دائرة صيدا، فريق ينتمى للتيار الناصرى ويقوده أسامة سعد، وتيار يدين لعائلة الحريرى بأفضال كثيرة، وإن حافظ الطرفان السنيان على علاقة طيبة استمرت منذ أيام رفيق الحريرى.
* * *
ويستمر دوران ماكينة صنع الأخبار، فالسوق الإعلامية نهمة لا تشبع وتريد المزيد، ولكن ليس كل ما يزيد، فهى سوق ذواقة تسوق الأخبار التى ترضى مزاجها بالحجم الذى تراه مناسبا وفى الوقت الملائم.
اختارت مثلا التغيير الذى حدث فى شخصية سعد الحريرى وفى خطابه وتشكيل فريقه ثم اختارت سفره المفاجئ للرياض فى وقت شديد الحساسية فى السياسة اللبنانية، ثم اختارت احتمالات شكل جديد لعلاقة سعد الحريرى رئيس تيار المستقبل ورئيس الأكثرية بالسنيورة رئيس الوزراء، ويتحدث البعض عن أسس هذه العلاقة حين كان السنيورة يقوم بدور اليد اليمنى لرفيق الحريرى رجل الأعمال ورفيق الحريرى رب الأسرة ورفيق الحريرى رئيس الوزراء، وكان سعد حينها ينادى الأستاذ فؤاد السنيورة «عمو فؤاد».!!
* * *
كان آخر ما أنتجته ماكينة صنع الأخبار قبل مغادرتى بيروت مسلسلا من حلقات تروى الجديد فى تصرفات النائب وليد جنبلاط ومواقفه السياسية. جمعنى لقاء بعدد من الأصدقاء المتخصصين فى صنع الأخبار وتحليل الأخبار الطازجة والحكم على صلاحيتها للترويج أو التعتيم. كان موضوع اللقاء الرجل الأشد إثارة فى لبنان وصانع أكثر أخباره، وهو الأستاذ وليد، تذكرت المرة الثانية التى رأيت فيها وليد جنبلاط وكانت فى هذا الفندق الذى أنزل فيه عادة، حيث جرى اللقاء مع هذا النفر من الأصدقاء.
حدث هذا فى سبتمبر عام 2004 وكان جنبلاط يخطب فى مؤتمر حاشد، أطلق عليه بعده لقاء البريستول، داعيا جميع قوى المعارضة للثورة ضد الوجود السورى فى لبنان. واعتبر الكثيرون فى لبنان وخارجه خطابه بمثابة إعلان حرب على سوريا.
وبعد ستة أشهر وقع اغتيال الرئيس الحريرى. أما المرة الأولى التى رأيت فيها جنبلاط فكانت فى عام 1975وكنت فى صحبة رجل من مصر احتل، وما يزال يحتل، مكانة كبيرة فى نفسى. كنا نزور الراحل كمال جنبلاط، زعيم الدروز والفيلسوف المتصوف والسياسى المخضرم.
وفى نهاية الزيارة نزل معنا جنبلاط لتوديعنا. وبينما كنا نقف على قارعة الطريق فى انتظار السيارة، إذ بصوت دراجة بخارية من النوع الصاخب يغطى على كلمات التوديع الصادرة من رجل هو بطبيعته خافت الصوت متواضع النبرة، ثم يظهر أمامنا شاب كثيف الشعر زائغ العينين، حَيّانا وأباه بعدم اكتراث وترك الدراجة على الرصيف وصعد إلى المنزل، لم نعرفه، ولم نكن لنعرف بأى حال لولا أن كمال جنبلاط همس بصوت خافت: «هذا الذى مر أمامنا وحيانا كان ابنى وليد»، ولم يزد ولم نعلق.
أعود إلى ذاكرة الفندق الذى جرى فيه لقاء الأصدقاء وغيره من لقاءاتى. هنا فى هذه القاعة زرت الأخضر الإبراهيمى حين كان مفوضا من الجامعة العربية لتحقيق السلام بين أطراف الحرب الأهلية اللبنانية فى الثمانينيات. رأيته يعمل ليل نهار، بينما أصوات الصواريخ والمدافع والانفجارات تهز الفندق وتصم الآذان.
كنت أعرف أيضا أن هذا الفندق كان الموقع الذى اختاره بيير الجميل وكمال جنبلاط وريمون إده ليعلنوا منه استنكارهم قرار جمال عبدالناصر تأميم قناة السويس فى عام 1956، وكان الموقع الذى اختارته قوى المعارضة اللبنانية لتخطيط عمليات المقاومة للغزو الإسرائيلى للبنان فى عام 1982.لا شىء فيما أتصور أكثر إقناعا لهواة التاريخ وقرائه من أن يعيشوا فى مكان شهد أحداثا فرضت نفسها على سجل التاريخ.
(4)
كان موضوع جلستنا كما ذكرت التغيير المفاجئ والمطرد فى تصريحات وليد جنبلاط وخطاباته أبديت ملاحظات على أقوال وتصرفات لفتت نظرى خلال متابعتى للرجل وسياساته فى الأيام الأخيرة، ومنها مثلا اللهجة الجديدة التى يتحدث بها عن «الشقيقة» سوريا، متذكرا بوضوح ومقارنا كلماته النارية التى وصف بها «الأشرار السوريين» والاحتلال السورى فى خطابه فى فندق البريستول عام 2004 وتحريضه اللبنانيين على الثورة ضد الاستبداد السورى.
أبديت ملاحظة أخرى تتعلق بحزب الله، عدوه اللدود قبل أيام، وتصريحاته عن «الاعتداءات الإسرائيلية» والظلم الواقع على الشعب الفلسطينى، رأيته متغيرا فى معظم ما أدلى به، ولعلى استخدمت ببعض المبالغة عبارة «رأيته شخصا مختلفا».
عندما يتحدث عن أمريكا يقول إنها تغيرت، وعن النظام العربى فيقول إنه تغير، وعن سوريا فيقول إنها تغيرت. كل شىء تغير لأن أمريكا تغيرت، ويتعين على السياسيين اللبنانيين أن يتغيروا. ويبدو أنه قرر أن يبدأ بنفسه. إذ قام بإجراء تغيير جذرى فى جميع تحالفاته الداخلية تمهيدا للانتخابات. جاءنى الرد على ملاحظاتى فى شكل سهل وممتع فى آن واحد، إذ قال جليس من جلسائى، «لا شىء تغير فى وليد بك، عليك أن تدرك أنه فى الفترة بين إدلائك بسؤال إلى وليد بك وبين إدلائه بالإجابة على السؤال يكون وليد بك قد أجرى تغييرا جديدا فى تحالفاته.»
هذا الأسلوب ليس من إبداعات وليد بك بقدر ما هو إبداع أصيل من إبداعات قادة الدروز على مر العصور. ومع ذلك فهناك من يعتقد أن شيئا ما قد تغير فعلا فى لبنان سواء بسبب التغير الحادث فى أمريكا أو فى سوريا.
ولا يُخفى العالمون بسياسات ما تحت السطح أن الولايات المتحدة نصحت، وربما ضغطت على كل من سعد الحريرى ووليد جنبلاط ليعملا بأقصى جهد ممكن للمحافظة على مكانة المسيحية اللبنانية ويقدما تنازلات تضمن تمثيلا جيدا للمرشحين المسيحيين ودورا فى التحالفات النيابية، سواء كان المرشحون المسيحيون من أنصار الرئيس الأسبق ميشيل عون أو أنصار الرئيس الأسبق بيير الجميل أو أنصار الدكتور سمير جعجع والقوات اللبنانية أو أنصار سليمان فرنجية رئيس تيار المردة.
هؤلاء وغيرهم يتنافسون الآن على موقع لا يسعهم جميعا ولا يوجد بينهم من يريد التنازل. قليلون الآن هؤلاء الموارنة الذين كانوا ذات يوم غير بعيدين عن عصب الأمة اللبنانية ومستعدين للتضحية بمصالح ضيقة فى سبيل استعادة الوحدة المسيحية.
(5)
البهجة فى كل ركن من بيروت والأمل متجدد، بالرغم من وجود كثير، بل كثير جدا من المشكلات الاجتماعية المتفاقمة بسبب الأزمة المالية العالمية.
مرة أخرى يستعد اللبنانيون لتجربة انتخابات برلمانية، ولكنهم يستعدون هذه المرة بتفاؤل واطمئنان، يعرفون نتيجتها، أو يخمنوها. يعتقدون أنه لن يفوز طرف على آخر فوزا ساحقا، ستتوزع معظم مقاعد البرلمان مناصفة بين تحالف الموالاة بقيادة تيار المستقبل وتحالف الممانعة بقيادة حزب الله، وستتبقى عشرة مقاعد أو ما يقترب من هذا العدد لمستقلين.
هؤلاء العشرة سيلعبون دور الرصيد لرئيس الجمهورية يضغط بهم ليهدئ المزاج فى البرلمان أو لدفع النواب نحو الإنجاز. ستمر البلاد خلال الأسابيع القليلة القادمة فى فترة هدوء تعقبها فترة «خضخضة» يحدث خلالها فرز حقيقى للعلاقات بين التيارات السياسية والعلاقات داخل كل تيار، ثم تجرى الانتخابات، وبعدها إما أن تتحول الخضخضة إلى خلافات تتفاقم فى اتجاه درجة أو أخرى من العنف بفعل تدخلات عربية وأجنبية بدأت ملامحها تظهر وبعضها جاء أسرع مما كنت أتوقع، أو تهدأ الأعصاب ويخلو الجميع لبناء ديمقراطية توافقية حديثة على أساس خريطة سكانية وطائفية أكثر واقعية وأشد ميلا للتفاهم والتعايش.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.