عيار 21 الآن بالمصنعية.. سعر الذهب اليوم الخميس 21-8-2025 بعد الارتفاع الكبير    روسيا تفرض قيودًا على الطيران في مطاري كالوجا وساراتوف لأسباب أمنية    كيم جونغ أون يحيي جنوده المشاركين في القتال إلى جانب روسيا    قصف إسرائيل ل جباليا البلد والنزلة وحي الصبرة في قطاع غزة    «لازم تتعب جدًا».. رسالة نارية من علاء ميهوب لنجم الأهلي    عاجل- درجة الحرارة تصل 42 ورياح.. بيان مهم من الأرصاد يكشف حالة الطقس اليوم الخميس    سامح الصريطي بعد انضمامه للجبهة الوطنية: لم أسعَ للسياسة يومًا.. لكن وجدت فرصة لخدمة الوطن عبر الثقافة والفن    «الشيخ زويد المركزي» يبحث مع «اليونيسف» ووزارة الصحة تأهيله كمركز تميز للنساء والتوليد ورعاية حديثي الولادة    نائب ترامب: لقد غير النزاع اقتصاد أوروبا وآسيا.. ونحن بحاجة إلى العودة للسلام    وداعا لمكالمات المبيعات والتسويق.. القومي للاتصالات: الإيقاف للخطوط والهواتف غير الملتزمة بالتسجيل    فلكيًا.. موعد المولد النبوي الشريف 2025 رسميًا في مصر وعدد أيام الإجازة    مروة يسري: جهة أمنية احتجزتني في 2023 أما قلت إني بنت مبارك.. وأفرجوا عني بعد التأكد من سلامة موقفي    رجل الدولة ورجل السياسة    حين يصل المثقف إلى السلطة    أذكار الصباح اليوم الخميس.. حصن يومك بالذكر والدعاء    رئيس شعبة السيارات: خفض الأسعار 20% ليس قرار الحكومة.. والأوفر برايس مستمر    للرجال فقط.. اكتشف شخصيتك من شكل أصابعك    الآن.. شروط القبول في أقسام كلية الآداب جامعة القاهرة 2025-2026 (انتظام)    إصابة مواطن ب«خرطوش» في «السلام»    درجة الحرارة تصل 43.. بيان مهم من الأرصاد يكشف حالة الطقس اليوم    سعر السمك البلطي والكابوريا والجمبري بالاسواق اليوم الخميس 21 أغسطس 2025    عيار 21 بالمصنعية يسجل أقل مستوياته.. أسعار الذهب والسبائك اليوم بالصاغة بعد الهبوط الكبير    توقعات الأبراج حظك اليوم الخميس 21-8-2025.. «الثور» أمام أرباح تتجاوز التوقعات    ابلغوا عن المخالفين.. محافظ الدقهلية: تعريفة التاكسي 9 جنيهات وغرامة عدم تشغيل العداد 1000 جنيه    «عنده 28 سنة ومش قادر يجري».. أحمد بلال يفتح النار على رمضان صبحي    تعاون علمي بين جامعة العريش والجامعة المصرية اليابانية للعلوم والتكنولوجيا    لماذا لا يستطيع برج العقرب النوم ليلاً؟    استشاري تغذية يُحذر: «الأغذية الخارقة» خدعة تجارية.. والسكر الدايت «كارثة»    90 دقيقة تحسم 7 بطاقات أخيرة.. من يتأهل إلى دوري أبطال أوروبا؟    "تجارة أعضاء وتشريح جثة وأدلة طبية".. القصة الكاملة وآخر مستجدات قضية اللاعب إبراهيم شيكا    استخدم أسد في ترويع عامل مصري.. النيابة العامة الليبية تٌقرر حبس ليبي على ذمة التحقيقات    الجبهة الوطنية يعين عددًا من الأمناء المساعدين بسوهاج    الصحة في غزة: ارتفاع حصيلة ضحايا المجاعة وسوء التغذية إلى 269 بينهم 112 طفلًا    الجنائية الدولية: العقوبات الأمريكية هجوم صارخ على استقلالنا    شراكة جديدة بين «المتحدة» و«تيك توك» لتعزيز الحضور الإعلامى وتوسيع الانتشار    ضربها ب ملة السرير.. مصرع ربة منزل على يد زوجها بسبب خلافات أسرية بسوهاج    شراكة جديدة بين "المتحدة" و"تيك توك" لتعزيز الحضور الإعلامي وتوسيع نطاق الانتشار    السفير الفلسطيني بالقاهرة: مصر وقفت سدًا منيعًا أمام مخطط التهجير    احتجاجات في مايكروسوفت بسبب إسرائيل والشركة تتعهد بإجراء مراجعة- فيديو    رئيس اتحاد الجاليات المصرية بألمانيا يزور مجمع عمال مصر    بعد التحقيق معها.. "المهن التمثيلية" تحيل بدرية طلبة لمجلس تأديب    بعد معاناة مع السرطان.. وفاة القاضي الأمريكي "الرحيم" فرانك كابريو    ليلة فنية رائعة فى مهرجان القلعة للموسيقى والغناء.. النجم إيهاب توفيق يستحضر ذكريات قصص الحب وحكايات الشباب.. فرقة رسائل كنعان الفلسطينية تحمل عطور أشجار الزيتون.. وعلم فلسطين يرفرف فى سماء المهرجان.. صور    ناصر أطلقها والسيسي يقود ثورتها الرقمية| إذاعة القرآن الكريم.. صوت مصر الروحي    طارق سعدة: معركة الوعي مستمرة.. ومركز لمكافحة الشائعات يعمل على مدار الساعة    عودة شيكو بانزا| قائمة الزمالك لمواجهة مودرن سبورت    "أخطأ في رسم خط التسلل".. الإسماعيلي يقدم احتجاجا رسميا ضد حكم لقاء الاتحاد    محافظ كفر الشيخ يقدم واجب العزاء في وفاة والد الكابتن محمد الشناوي    اتحاد الكرة يفاوض اتحادات أوروبية لاختيار طاقم تحكيم أجنبي لمباراة الأهلي وبيراميدز    جمال شعبان: سرعة تناول الأدوية التي توضع تحت اللسان لخفض الضغط خطر    كلب ضال جديد يعقر 12 شخصا جديدا في بيانكي وارتفاع العدد إلى 21 حالة خلال 24 ساعة    عودة المياه تدريجيا إلى كفر طهرمس بالجيزة بعد إصلاح خط الطرد الرئيسي    وفاة أكثر قاض محبوب في العالم وولاية رود آيلاند الأمريكية تنكس الأعلام (فيديو وصور)    افتتاح قمة الإبداع الإعلامي للشباب العربي بحضور هنو ومبارك وعمار وعبدالغفار وسعده    ما الفرق بين التبديل والتزوير في القرآن الكريم؟.. خالد الجندي يوضح    أمين الفتوى يوضح الفرق بين الاكتئاب والفتور في العبادة (فيديو)    طلقها وبعد 4 أشهر تريد العودة لزوجها فكيف تكون الرجعة؟.. أمين الفتوى يوضح    كيف يكون بر الوالدين بعد وفاتهما؟.. الإفتاء تجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد الوهاب المسيري: عاشق سارح في الملكوت
نشر في فيتو يوم 22 - 03 - 2014

الدكتور عبد الوهاب المسيري (1938-2008)، أستاذ الأدب الإنجليزي، مفكر مصري من نقاد الحداثة الغربية ومن دعاة تأسيس حداثة إسلامية وصاحب موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية.
نشأ الدكتور المسيري في أسرة ريفية ثرية وتعلم في المرحلة الابتدائية والثانوية في بلده دمنهور. وكان والده من رجال الأعمال ولكنه كان حريصا على تنشئة أولاده على الاعتماد على الذات. وعنها قال المسيري هذه النشأة جعلتني باحثا مثابرا. لا تنس أن أبناء البرجوازية الريفية -وأنا منهم- ينشئون في خشونة، خلافا لأبناء البرجوازية الحضرية. كان والدي يردد أنه لا علاقة لنا بثروته، زادت أم نقصت، وأن علينا أن نعيش في مستوى أولاد الموظفين. كنت أشكو من هذا آنذاك، لكنني تعلمت، فيما بعد، عندما ازددت حكمة، أنه نفعنا كثيرا بذلك».
المسيرى تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في دمنهور والتحق عام 1955 بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية وحصل على ليسانس الآداب قسم الأدب الإنجليزي عام 1959، وعُين معيدًا فيها عند تخرجه. سافر إلى الولايات المتحدة عام 1961 للدراسة حيث حصل على درجة الماجستير في الأدب الإنجليزي والمقارن عام 1964 من جامعة كولومبيا (Columbia University)، الولايات المتحدة. ثم حصل على درجة الدكتوراه عام 1969 من جامعة رَتْجَرز Rutgers University، الولايات المتحدة في الأدب الإنجليزي والأمريكي المقارن.
مساره المهني
بعد عودته إلى مصر قام بتدريس الأدب الإنجليزي والأمريكي والنظرية النقدية في كلية البنات جامعة عين شمس،وعمل كأستاذ من 1979 حتى 1983، ثم أستاذ غير متفرغ حتى وفاته. كما عمل أيضا أستاذا في الأدب الإنجليزي والمقارن في جامعة الملك سعود (1983-1988)، وجامعة الكويت (1988-1989)، والجامعة الإسلامية في ماليزيا. كما عمل أستاذا زائرًا في أكاديمية ناصر العسكرية.
إلى جانب عمله بالتدريس شغل عضوية مجلس الخبراء، رئيس وحدة الفكر الصهيوني، بمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام (1970 – 1975)، وعمل مستشارًا ثقافيًا للوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدى هيئة الأمم المتحدة بنيويورك (1975 – 1979).
نشاطه السياسي
كان الدكتور المسيري نشطا في المشاركة في الحركات السياسية والتظاهرات الاحتجاجية في مطلع حياته عندما كانت مصر تعج بالحركات والأحزاب السياسية وبمظاهر المقاومة للاحتلال الإنجليزي. واستمر هذا النشاط خلال الخمسينيات حيث انضم لبعض الحركات السياسية حتى سفره إلى الولايات المتحدة للدراسة. انضم في منتصف التسعينيات إلى قائمة مؤسسي حزب الوسط المصري، وهو حزب قائم على أسس ديمقراطية ولكنه بمرجعية إسلامية، وقام بدور أساسي في صياغة مشروعه السياسي. ويعد ذلك تعبيرا عن رؤيته في فكرة الحداثة الإسلامية. ثم انضم إلى حركة التغيير المصرية المشهورة بحركة «كفاية» عند تأسيسها عام 2005، ثم ترأسها عام 2007 حتى وفاته.
مساره الفكري
اعتنق في بداياته -وتحديدا في المرحلة الثانوية- الفكر الشيوعي وانضم لفترة محدودة لأحد الأحزاب الشيوعية المصرية في الخمسينيات، وأمن في هذه الفترة بفكر الحداثة الغربية، خصوصا في صيغته الاشتراكية. وبدأ تحوله الفكري بعد سفره للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1961، حيث بدأ التعرف على الحداثة الغربية عن قرب وعاين تحولاتها الجذرية خلال مرحلة الستينيات.
يصف الدكتور المسيري بدايات التحول نحو الاتجاه الإسلامي بأنه يرجع إلى عام 1963، وأن جوهر رؤيته أن الإنسان كائن فريد وليس كائنا ماديا، وأن المساواة بين البشر مسألة ضرورية، فالإنسان بلا شك يعيش في عالم المادة وهو جزء منها، لكنه جزء يتجزأ وليس جزءا لا يتجزأ منها؛ لأن فيه ما يجعله يتجاوز السقف المادي، وأن العدل قيمة أخلاقية أساسية. يقول«هذه الرؤية الأساسية هي الخيط الناظم في كل ما أكتب، وفي تطور حياتي الفكرية، المرجعية الفلسفية قد تغيّرت من فترة لأخرى، لكن طلب الرؤية كما هو، برغم تغير السبل والمناهج التي تؤدي إلى تحقيق هذه الرؤية، لقد التحقت في بداية حياتي لفترة قصيرة ب«الإخوان المسلمين» في مرحلة الصبا، ثم اتجهت إلى الماركسية، وعشت مرحلة من الشك، ولكن مع الالتزام بالقيم المطلقة، مثل الحق والخير والجمال والإيمان بأن الإنسان كائن غير مادي، وضرورة إقامة العدل في الأرض، وبالتدريج وعلى مدى رحلة فكرية استغرقت أكثر من ثلاثين عاما عدت مرة أخرى إلى الإسلام لا كعقيدة دينية وحسب ولا كشعائر، وإنما كرؤية للكون وللحياة وكأيديولوجية.
رحلة التحول
التحول تم على درجات، بدأت بتجارب إنسانية بسيطة، مثل قصة حبي للدكتورة هدى التي لم أتمكن من تفسيرها ماديا؛ ولذا ظللت أبحث في الكتابات الماركسية إلى أن وجدت تعريف ماركس للزواج بأنه علاقة اقتصادية مفعمة بالحب (أي أنه سقط في ثنائية إيمانية تميز بين المادة [علاقة اقتصادية، والروح والحب]). ثم جاءت ابنتي نور، وحين تأملت في لحظة ميلادها لم أستطع تفسير علاقة أمها بها، أو علاقتي أنا بهما تفسيرا ماديًّا.
هذه الحوادث خلخلت من قبضة النموذج المادي، ولكن في الولايات المتحدة تفككت قبضته تماما حين ذهبت إلى جامعة رتجرز في الولايات المتحدة في أوائل الستينيات، كان البروفسور وليام فيلبس، هو من أشهر النقاد الاجتماعيين والأدبيين آنذاك، يرأس تحرير مجلة البارتيزان ريفيو، وقد تبناني فكان يدعوني للحفلات التي كانت تعقدها المجلة، مما أتاح لي الفرصة للحديث مع كبار الكتاب ومع الشباب من المثقفين الواعدين، فكنت أحدثهم بحماسة شديدة (باعتباري واحدا منهم) عن الإنسانية (الهيومانية) humanism والاستنارة والعقل والعقلانية الغربية، فكنت أفاجأ بأنهم يتحدثون عن اللاعقل واللاوعي والمخدرات والعبث والأساطير والفن البدائي والوعي الكوني والذوبان في الكون والبنيوية.
كما لاحظت تزايد الإشارات السلبية إلى مفهوم الإنسانية الهيومانية والإشارات الساخرة إلى الاستنارة، واكتشفت ساعتها أنني الداعي الوحيد للاستنارة في صحراء اللاعقل الجليدية، واكتشفت أن الحضارة الغربية قد دخلت مرحلة جديدة.
وقائع عملية التحول
هناك حوادث كثيرة من أهمها ما حدث لي أثناء التدريس في كلية البنات عام 1970.. كنت قد ألقيت محاضرة عن الاستنارة الغربية نوهت فيها بمناقبها الكثيرة بما في ذلك عقلانيتها، ولكنني في المحاضرة التالية كنت أدرّس الشعر الإنجليزي الحديث، وكان الدور على قصيدة ت.س. إليوت: «الأرض الخراب The Waste Land»، فتحدثت عن أزمة الإنسان الحديث وتفتته واغترابه عن ذاته وعن الطبيعة، وبينما كنت ألقي محاضرتي، أحسست بسخفي الشديد، إذ تساءلت كيف يمكن لحضارة الاستنارة أن تنتهي في ظلمات الأرض الخراب؟!
كيف يمكن أن أبشر بالحضارة الغربية باعتبارها حضارة الاستنارة من الساعة التاسعة حتى الساعة التاسعة وخمس وخمسين دقيقة، ثم أبين لنفس الطالبات أنها في واقع الأمر حضارة الأرض الخراب من الساعة العاشرة حتى الساعة العاشرة وخمس وخمسين دقيقة؟! كان لابد أن أجد تفسيرًا كليا قادرا على تفسير هذا التناقض، والوصول إلى الوحدة الكامنة خلف التنوع، بل خلف التناقض الظاهر الواضح!
ومن الوقائع الأخرى الطريفة أنني كنت أكتب قصائد حداثية فأجد نفسي أكتب عن موضوعات حداثية، مثل غربة الإنسان وخيانة القيم... الخ، وهي موضوعات ليس لها علاقة بتجربتي الشخصية وتتنافى مع رؤيتي الخاصة، وحيث إنني كنت لا أنوي نشر هذه القصائد، فالمسألة لا يمكن تفسيرها على أساس أنني أبحث عن رضا النقاد أو القراء، ولابد أن تفسر من الداخل، إذ يبدو أن خطاب الحداثة له حدوده وسقفه، فهو ليس مجرد أسلوب وإنما طريقة في الرؤية.
كنت مرة أجلس مع ابني، وهو بعد طفل، نشاهد التليفزيون، وسمع من المذيع أن الغرب قد راكم من الأسلحة النووية ما يكفي لتدمير العالم عشرات المرات، ففوجئت به يضحك ملء شدقيه ويخبرني بشيء بديهي فاتني، وهو أنه بعد تدمير العالم مرة واحدة، لا يمكن تدميره مرة ثانية، ساعتها ضحكت أنا الآخر، وتدعمت شكوكي بخصوص عقلانية العالم الغربي «المتقدم» وبخصوص النموذج المادي.
الإيمان والقدرة التفسيرية
من النموذج المادي إلى النموذج الإنساني الإيماني
ثمة عناصر كثيرة متداخلة هي التي أدت في نهاية الأمر إلى عملية الانتقال، وسأحاول أن أتناول كل عنصر على حدة، ولأبدأ بتصوري، شأني شأن الكثيرين، أن الحضارة الغربية هي حضارة الفردية، وأن حضارتنا هي الحضارة الشرقية الجمعية، هكذا تعلمنا، وهكذا أدركنا الكون، ولكنني حينما ذهبت إلى هناك، لاحظت أن ثمة نمطية مذهلة في أشكال الحياة، وفي الأنماط الإنسانية، وهو أمر قد رصده علم الاجتماع الغربي، خاصة بعد ظهور علوم متخصصة في التحكم في السلوك الإنساني، سواء في العمل أو في الحياة الخاصة، التي قامت بترشيد حياة الإنسان وضبطها وفقا لخطة محددة (نوم - إفطار - عمل) بحيث أصبح كل شيء مجهزا مسبقا، حتى الإجازات والأفراح، بل المآتم، مجهزة ومنظمة ومخططة، يوجد الآن وظيفة «مخرج فرح» (وهي وظيفة بدأت تظهر في بلادنا أيضا)، ينظم لك كل شيء، وصاحب الشأن نفسه لا يستطيع أن يغير أي شيء، وعلم الاجتماع الغربي يتحدث عن التنميط standardization وهيمنة النماذج الكمية quantification وهي مصطلحات تشير إلى غياب الفردية وتآكل رقعة الحياة الخاصة.
كنت أقابل كثيرا من الأمريكيين يغيرون ملبسهم ومأكلهم وسلوكهم حسب ما يمليه الإعلام، بل ينسخون ما جاء في بعض الكتالوجات، مما كان يثير ضحكي أحيانا وحزني أحيانا أخرى، وهذا دعاني للقول بأن ما يسود في الولايات المتحدة ليس الفردية وإنما البراجماتية، والإنسان البراجماتي إنسان مطاط يتصور أنه يؤكد ذاته الجوانية، ولكنه ينتهي بالتكيف مع ما حوله وبالاستجابة المباشرة لما يأتيه من إشارات ونداءات وإعلانات وبيانات سياسية، فيعيد صياغة نفسه بسهولة وسرعة حسب آخر الصيحات.
وقد عرَّف أحد العلماء الغربيين الحداثة بأنها «المقدرة على أن يغير الإنسان قيمه بعد إشعار قصير»، وهذا يتنافى مع ما تعلمناه من أن الإنسان الغربي إنسان يقف وحيدا في الكون يملي إرادته، عالمه الداخلي من صنعه، وهو يحاول في الوقت نفسه أن يفرضه على العالم الخارجي من حوله.. لم أجد شيئا من هذا (إلا في الأعمال الأدبية أساسا).. كانت الغالبية الساحقة من الناس، الذين ليس عندهم مقدرات نقدية عالية ووعي بالذات، في حالة عدم ثقة بالنفس تستمد صورتها لنفسها من الإعلام الذي كان آخذا في التوحش والتغول.
الموت..تحولات أخرى
نعم.. موقفي من الموت، ويبدو أنني لم أكن مستوعبا تماما للمرض أو للموت على الرغم من إحساسي الشديد بالزمن، فقد ظلا بعيدين عني طيلة حياتي، ولم أحضر سوى جنازة أو اثنتين طيلة حياتي، كما لم أذهب لتعزية أحد تقريبا، ونادرا ما ذهبت لأعود أحد أصدقائي في مرضه، فكنت أكتفي بالمكالمات التليفونية أو بإرسال البرقيات.. (كنت أقول ساخرا لزوجتي: إنني حينما يتوفاني الله لن يحضر أحد جنازتي، وإن كانت ستتلقى سيلا عارما من البرقيات).
ولابد أن انشغالي الشديد بالموسوعة قد شجع هذا الاتجاه فيّ، وجعلني قادرا على تسويغه لنفسي، فكنت أخبر نفسي بأن أصدقائي سيفهمون ماذا أفعل، ولكن يبدو، والحق يقال، أن المسألة كانت أعمق من انشغالي بالموسوعة، إذ كان هناك داخلي اتجاه نفسي نحو التأمل والاحتفاظ بمسافة بيني وبين الأحداث، وهذا الاتجاه النفسي هو ما جعلني أسلك هذا السلوك.
كنت مرة في بوسطن ورأيت لوحة جميلة رسمها فنان صيني لشجرتين من نبات البامبو (البوص) تعلو كلا منهما زهرة ملونة جميلة، وقال الفنان في شرحه للوحة: إن هذا النوع من البامبو يظل ينمو لمدة تسعة وثلاثين عاما ثم يزهر زهرته في العام الأربعين ويموت بعدها، سحرت بهذه الفكرة، وغرقت في التأمل فيها، وقررت أن أسافر إلى الصين لمشاهدة حقول البامبو هذه حينما تزهر.
وحينما كنت أدرس عام 1987 في السعودية، قرأت مقالا في مجلة تايم عن أن نبات البامبو قد أزهر في ذلك العام، وكنت قد تجاوزت الخمسين، وشعرت بأنه لن يقدر لي أن أراه، فكتبت «قصيدة» نثرية عن هذا الموضوع قلت فيها: «وكنت أجلس في شرفتي/ أنظر إلى النجوم والرمال/ أعد الأيام والدراهم/ وأتحسس شعرك الخيالي/ وكنت أجلس/ أتأمل في اللحظة العابرة/ وفي السكون الساكن/ في النار والنور/ في لحظة النمو والفناء/ أعد الأيام والدراهم/ وها أنت ذي يا زهرتي/ تورقين وتنثرين ألوانك/ وتذوبين في الفضاء الأبيض الرهيب/ وأنا/ يا زهرتي بعدك/ أحُث الخُطى».
كانت لحظة شعرت فيها بالموت يحيط بي، إذ كانت الزهرة تذكرة لي بالزمن والموت، ولكنه كان شعورا جماليا، فقد كانت هناك مسافة بيني وبينه.
كنت أفكر في الموت نظريا كثيرا، وأؤكد علاقته بالحياة والنمو والتاريخ والزمن.. ففي رسالتي للدكتوراه، أفردت فصلا كاملا عن الموت وموقف الشاعرين وردزورث وويتمان منه، وكيف أن الأول يدرك أن نمو الإنسان وتطوره ثم موته هو جوهر إنسانيته، وأن النضج الإنساني يعني قبول هذه الحدود.. أما ويتمان شاعر العلم وأمريكا والجسد، فهو كان لا يرى هذه الحدود، وكان يؤمن بدلا من ذلك بشكل من أشكال تناسخ الأرواح (لا يختلف كثيرا عن إيمان نيتشه بالعود الأبدي) الذي يلغي الموت والحدود، وقد ربطت بين كل هذا وموقف الشاعرين من المعايير الجمالية، كما كنت أتأمل موقف الأمريكيين من الموت، ورفضهم الشديد له وخوفهم العميق منه، وكنت أجد في هذا علامة على عدم النضج، بل رفض عميق للحياة الإنسانية.
كانت هذه هي علاقتي بالموت وبالمرض، إذ تحولا إلى موضوع فلسفي مجرد، أضعهما داخل إطار، وأخلق مسافة بيني وبينهما، وأتأمل فيهما وأغرق في التأمل، دون إحساس شخصي وجودي مباشر، ثم حدث في حياتي ما زلزلني.. بدأت كتابة الموسوعة وأنا في الخامسة والثلاثين من عمري، وكنت أعمل فيها ليل نهار.. أبدأ أحيانا في السادسة صباحا ولا أنتهي إلا في الثانية عشرة مساء، وأستمر لمدة أسبوعين دون توقف، وعلى الرغم من تقدمي في السن، فإن حصتي من النشاط والصحة كانت آخذة في الازدياد بحيث كنت أكثر نشاطا في الثامنة والخمسين مني في الخامسة والثلاثين، كما أن الله عافاني من أي مرض طوال هذه المدة (باستثناء نوبات المرض الخفيفة المعتادة التي تدوم عدة أيام ولا تعطل عن العمل، وعملية جراحية صغيرة دامت عدة أيام؛ ولذا عندما كان أحد يحدثني عن التقدم في السن كنت لا أفهم ماذا يقول.
ولكن يوم أن انتهيت من الموسوعة، عرفت نبأ حزينا للغاية (موت زوج ابنتي)، وقد لاحظت في ذلك اليوم أنني بدأت أفقد النطق أحيانا، وكنت أظن أنه عيب في فكي، وظللت متماسكا مدة شهرين تقريبا، ثم بدأت أشعر بدوار كلما فكرت أو مارست أي أحاسيس، وقد سقطت مرتين أو ثلاثا على الأرض.
ويبدو أن مرضي كان في معظمه نفسيا، نتيجة للإرهاق الذي أصابني من جراء العمل المتواصل في الموسوعة ومن جراء الخبر الذي وصل إلى وأنا منهك القوى تماما بعد الانتهاء منها، فكان جهازي العصبي يتصرف بإرادته مستقلا عني، إذ قرر أن يستجيب لأي شيء ولكل شيء حسبما يعن له، دون تدخل واعٍ مني.
وقد حضر لزيارتي صديقي الدكتور عبد الحليم إبراهيم عبد الحليم، المهندس المعماري، فأخبرته بأنني لا يمكنني أن أتحدث واقفا، فضحك، وقال: إذن فلتتحدث وأنت جالس، ونصحني بالرضا بحسبانه مدخلا للشفاء، وبالفعل.. قبلت حالتي وبدأت رحلة الشفاء والعودة منذ تلك اللحظة، فأخلدت إلى الراحة التامة لأول مرة في حياتي تقريبا، وقضيت إجازة شهرين أمام البحر، امتنعت خلالها قدر طاقتي عن التفكير حتى استرددت جزءا كبيرا من عافيتي، (كنت أعمل مدة أربع ساعات في الصباح وحسب).
وأشير لهذه الفترة من حياتي بالزلزال أو الكابوس؛ لأنها جاءت مفاجئة، وكانت بالفعل كالكابوس، وذقت طعم المرض والموت لا كمقولات مجردة وإنما كتجربة عشتها بنفسي، واستوعبتها بشكل وجودي، ولم ينقذني من هذا الزلزال سوى الرضا وتقبل الحدود.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.