قرأت في إحدى الصحف الفرنسية -التي وصلت إليّ من باريس في هذه الأيام الأخيرة- أن الفرنسيين قتلوا من أهل الجزائر سنة 1945 بعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها عددًا ضخمًا يبلغ المقللون له خمسة عشر ألفًا ويبلغ المكثرون له أربعين ألفا. والله يعلم كم يقتل الفرنسيون من الجزائريين في ثورتهم هذه القائمة، وكم قتلوا من التونسيين والمراكشيين وكم يقتلون منهم أثناء هذا الصراع المتصل بين قوم يريدون أن يعيشوا كرامًا وآخرون يريدون أن يتخذوهم رقيقًا بعد أن ألغت الحضارة الحديثة الرق فيما يقول أصحابها.. وضحايا الاستعمار في الهند الصينية من المستعمرين والمناهضين لهم لا يحصدون بعشرات الألوف وإنما يحصدون بمئاتها، ومن يدرى كم كان عدد الذين ضحى بهم الاستعمار الإنجليزى في شرق الأرض وغربها منذ انقضت الحرب العالمية الثانية إلى الآن؟ وأنت لا تقرأ صحيفة في الصباح أو في المساء إلا رأيت فيها حديث الموت الذي يصب في إيران على الذين لا يعجبهم ما كان من الاتفاق على استغلال آبار البترول، فقد أصبحت حياة الإنسان في هذا العصر أهون شأنًا وأقل خطرًا مما تخرج الأرض من ثمراتها الحية والميتة. فإذا شخصت هذا العصر بأنه عصر الحياة الإنسانية الرخيصة والمنافع الإنسانية الغالية أو بأنه عصر الدم الإنسانى الذي لا تبلغ قيمته قيمة البترول الذي يبسط السلطان ويدر المال فلست غاليًا ولا متجاوزًا للحق. وكنت أفكر في هذا كله منذ وقت طويل وأحمد الله الذي لا يحمد على المكروه سواه، وأقول لنفسى ولكثير من الناس إننا ما زلنا في عافية مما يمتحن به غيرنا من رخص الحياة الإنسانية وغلاء المال والمنافع والمطامع على حقارتها. ولكن الحضارة الحديثة قد ألغت المسافات والآماد وقاربت بين الناس على ما يكون بينهم من تباعد الأقطار والديار، وقد كنا نرى ذلك خيرًا ونعده رقيًا ودنوا إلى توحيد العالم أو تخفيف ما بينه من الفروق وإلى جمع الناس على كلمة سواء وتطهير قلوبهم من الضغن وتخليص نفوسهم من البغى وتمكينهم من أن يصيروا إخوانًا يعيشون على ما أباح الله لهم من طيبات الحياة دون أن يستغل بعضهم بعضا أو يستذل بعضهم بعضًا أو يستعلى بعضهم على بعض أو يتخذ بعضهم بعضا أربابًا من دون الله، فقد تبين أننا كنا نخدع أنفسنا ونطمع في غير مطمع ونتمنى ما لم يحن أوان تحقيقه بعد، وتبينا أن الشر يغرى بالشر وأن النكر يدعو إلى النكر وأن الموت يرغب في الموت. ونحن نصبح ذات يوم فإذا الهول يتكشف لنا كأشنع ما يكون الهول، وإذا بعض المصريين يمكرون ببعض، وإذا الموت يريد أن يتسلط على مصر كما تسلط على كثير غيرها من أقطار الأرض. وإذا كل واحد منا كان آمنًا أمن الغفلة الغافلة يظن أنه لن يتعرض إلا لما يتعرض له الناس الآمنون من هذه الآفات التي لا يسلطها الإنسان على الإنسان وإنما تسلطها الطبيعة على الحياة، إنا كنا غافلين حقًا خدعنا ما عرفناه عن وطننا هذا الوادع الهادئ الكريم الذي لا يحب العنف ولا يألفه ولا يحب أن يبلغ أرضه فضلا عن أن يستقر فيها. ولم لا؟ ألم نشهد منذ عامين اثنين ثورة يشبها الجيش وفى يده من وسائل البأس والبطش ما يغرى بإزهاق النفوس وسفك الدماء ولكنه يملك نفسه ويملك يده فلا يزهق نفسًا ولا يسفك دمًا ولا يأتى من الشدة إلا ما يمكن تداركه، ولا يجرح إلا وهو قادر على أن يداوي، ولا يعنف إلا وهو قادر على أن يرفق، وإذا ثورتنا فذة بين الثورات لا تأتي من الأمر مالا سبيل إلى إصلاحه غدا أو بعد غد. كل هذا لأن مصر لا تحب العنف ولا تألفه، ولأن نفوس أهلها نقية نقاء جوها، صافية صفاء سمائها، مشرقة إشراق شمسها، تسعى في طريقها مطمئنة كما يسعى نيلها مطمئنًا ناشرًا للخصب والنعيم من حوله، تضطرب فيها الضغائن والأحقاد بين حين وحين، ولكنها لا تلبث أن تثوب إلى العافية كما تثور فيها الرياح فتملأ الجو غبارًا ثم لا تلبث أن تعود إلى الهدوء الهادئ المطمئن. كذلك عرفنا مصر في عصورها المختلفة وكذلك رأيناها حين ثار جيشها منذ عامين فأخرج الطاغية ولكنه أخرجه موفورًا يحيا كما يحب أن يحيا مكفوف الأذى عن مصر، لم يؤذ في نفسه قليلًا ولا كثيرًا واشتد على بعض أبنائها شدة يمكن أن يتداركها باللين في يوم من أيام الصفو هذه التي تعرف كيف تملأ قلوب المصريين حبًا وأمنا وسلامًا، ولكننا نصبح ذات يوم فنستكشف أن فريقًا منا كانوا يهيئون الموت والهول والنكر لإخوانهم في الوطن ولإخوانهم في الدين ولإخوانهم في الحياة التي يقدسها الدين كما لا يقدس شيئًا آخر غيرها من أمور الناس. ما هذه الأسلحة وما هذه الذخيرة التي تدخر في بيوت الأحياء وفى قبور الموتى؟ ما هذا المكر الذي يمكن، وما هذه الخطط التي تدبر، وما هذا الكيد ا لذى يكاد؟ لم كل هذا الشر، ولم كل هذا النكر، ولم رخصت حياة المصريين على المصريين، كما رخصت حياة الجزائريين والمراكشيين والتونسيين على الفرنسيين وكما رخصت حياة الأفريقيين والآسيويين على الإنجليز؟ يقال إن حياة المصريين إنما رخصت على المصريين بأمر الإسلام الذي لم يحرم شيئًا كما حرم القتل، ولم يأمر بشىء كما أمر بالتعاون على البر والتقوى، ولم ينه عن شىء كما نهى عن التعاون على الإثم والعدوان، ولم يرغب في شىء كما رغب في العدل والإحسان والبر، ولم ينفر من شىء كما نفر من الفحشاء والمنكر والبغى. هيهات أن الإسلام لا يأمر بادخار الموت للمسلمين وإنما يعصم دماء المسلمين ممن شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. ويرى قتل النفس البريئة من أكبر الألم وأبشع الجرم وإنما هي العدوى المنكرة جاء بعضها من أعماق التاريخ وأقبل بعضها الآخر من جهات الأرض الأربع التي تستحل فيها المحارم وتسفك فيها الدماء بغير الحق ويستحب فيها الموت لأيسر الأمر. جاء بعضها من أعماق التاريخ.. من أولئك الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنهم يقرءون القرآن لا يتجاوز تراقيهم، والذي كان أيسر شىء عليهم أن يستبيحوا دماء المسلمين مهما تكن منازلهم في الإسلام، وأن يتحرجوا فيما عدا ذلك تحرج الحمقى لا تحرج الذين يتدبرون ويتفكرون ويعرفون ما يأتون وما يدعون. وجاءهم بعضها الآخر من هذا الشر المحيط الذي ملأ الأرض ظلما وفسادا، من هذا القتل المتصل في الحروب يثيرها بعض الأقوياء على بعض، وفى البطش يصبه الأقوياء على الضعفاء في البلاد المستعمرة التي يريد أهلها الحرية ويأبى المتسلطون عليها إلا الخضوع والإذعان والسمع والطاعة يفرضون ذلك عليها بالحديد والنار. وأنباء هذا الشر المحيط تملأ الجو من طريق الراديو، وتملأ القلوب والعقول من طريق الصحف، وتثير في نفوس الأخيار حزنًا ولوعة، وفى نفوس غيرهم ميلًا إلى الشر ورغبة فيه وتهالكًا عليه. لم يأت هذا الشر الذي تشقى به مصر الآن من طبيعة المصريين لأنها في نفسها خيرة، ولا من طبيعة الإسلام لأنه أسمح وأظهر من ذلك وإنما جاء من هذه العدوى. والخير كل الخير هو أن نطلب لهذا الوباء دواء لغيره من الأوبئة التي تجتاح الشعوب بين حين وحين، وقد تعلم الناس كيف يطبون للأوبئة التي تجتاح الأجسام وتدفعها إلى الموت دفعا.. فمتى يتعلمون الطب لهذا الوباء الذي يجتاح النفوس والقلوب والعقول فيغريها بالشر ويدفعها إلى نشره وإذاعته ويملأ الأرض بها فسادًا وجورًا؟ بهذا يأمر الله عز وجل في القرآن العزيز حيث يقول في الآية الكريمة: «ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون».