هو شيخ شاب، كان يعمل – سنة 1925 – قاضيًا شرعيًا لمحكمة المنصورة، ولكنه لم يكن ككل من أخرج الأزهر في ذلك الوقت من مشايخ، فهو من أسرة "عبد الرازق" الغنية العريقة، والتي تميزت بين الأسر الغنية العريقة بالاهتمام الخاص بالثقافة والفكر، وفى تلك السنة كان الدستور معطلًا، وسعد زغلول مبعدًا عن الحكم، وكان الملك فؤاد يحكم مصر حكمًا استبداديًا بواسطة وزارة من حزبى الاتحاد والأحرار الدستوريين يرأسها أحمد زيور. وفى تلك السنوات سقطت الخلافة الإسلامية في تركيا تحت أقدام "كمال أتاتورك" الذي طارد في بلاده الخلافة والإسلام على السواء، وخلت الدنيا من الخلافة الإسلامية، لأول مرة منذ أكثر من ألف عام، والتقط الإنجليز فكرة الخلافة الواقعة على الأرض، فلماذا لا يعززون استعمارهم بالخلافة الإسلامية، وإذا كان من المستحيل أن يكون الخليفة إنجليزيا، فالعملاء بين المسلمين ما أكثرهم، لماذا لا يجعلون واحدًا منهم خليفة للمسلمين، وما هو أكبر عرش يحمل بركة الإنجليز ويعترف لهم بالجميل ؟ إنه عرش مصر الذي لولاهم لاقتلعتهم "هوجة عرابى"، وسمع الملك فؤاد هذه القصة، فبدأ يحلم بها، وإن لم يطلق لحيته كما صنع فاروق بعد ذلك. ولكن الشيخ الشاب، قاضي محكمة المنصورة الشرعية زين له شبابه وتحرره أن يقف ضد هذا كله، وأن يعكف على البحث بضع سنين، ثم يخرج للناس بكتاب صغير لا تزيد صفحاته على المائة إلا قليلا، اسمه "الإسلام وأصول الحكم، فيكون من شأنه أن يسقط وزارة ويفض ائتلافا ويحول في السياسة المصرية تيارا خطيرا. "الشيخ على عبدالرازق" قال في هذا البحث الخطير: تساءل أولا عن سند هذه الخلافة، فقرر أن القرآن والأحاديث لم يرد فيها أي منص عن الخلافة كنظام حكم يجب أن يلتزم به المسلمون، بقى سند ثالث هو "الإجماع"، أي اتفاق المسلمين على شيء، فقرر أن الخلافة الإسلامية لم توجد أبدًا بالإجماع، فباستثناء الخلفاء الثلاثة الأولين "أبو بكر وعمر وعثمان" لم تقم الخلافة الإسلامية أبدًا على أساس الاختيار الحر، بل قامت بقوة السيف، وعلى أسنة الرماح. وضرب "الشيخ الشاب" الأمثلة الكثيرة التي تدل على أن الحكومة كانت تقوم بالقوة، فروى – مثلا- قصة مبايعة يزيد لولاية العهد بعد معاوية، حين جلس الأخير وبجانبه ابنه يزيد، وأجلس حوله كبار رجال الدولة، ثم وقف رجل يمسك سيف وقال: أمير المؤمنين هذا – وأشار إلى معاوية- فإن هلك فهذا – وأشار إلى يزيد- فمن أبى فهذا – وأشار إلى السيف- وروي كيف استباح "يزيد" دم الحسين ليستقر في الخلافة، وكيف سمى أول الخلفاء العباسيين ب"السفاح" لكثرة ما كان يسفح من دماء المسلمين. وساق – الشيخ الشاب- دليلا آخر على أن الخلافة كانت حكما استبداديا غاشما هو أن العرب طيلة هذه القرون برزوا وتفوقوا في كل أنواع العلوم والفنون ما عدا علم الساسية، ولا يختفى علم السياسة من الوجود إلا إذا كان الحكم استبداديًا تعسفيًا مطلقًا. ثم تحدث - قاضي محكمة المنصورة الشرعية – عن الرأى القائل إن الخلافة ضرورية لبقاء الدين الإسلامى فقال: معاذ الله..لا يريد الله جل شأنه لهذا الدين الذي كفل له البقاء أن يجعل من عزه وذله مرتبطين بنوع من الحكومة، ولا بصنف من الأمراء، ولا يريد الله جل شأنه بعباده المسلمين أن يكون صلاحهم أو فسادهم رهن الخلافة ولا تحت رحمة الخلفاء. وخلص من ذلك إلى أن القرآن لم يحدد شكلا معينا للحكومة بل اشترط مجرد وجود حكومة أيا كان نوعها، ملكية أو جمهورية أو ديمقراطية أو اشتراكية، أما الخلافة بالذات فليس بنا من حاجة إليها لأمور ديننا ولا لأمور دنيانا، فإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة على الإسلام وعلى المسلمين، على حد قوله. رغم الأسانيد والحقائق التي قدمها الشيخ الشاب في كتابه "الإسلام وأصول الحكم" إلا أن القذائق والاتهامات طالته من الجميع، والبداية كانت من رجال الدين ومنهم شيخ من علماء الأزهر يدعى محمد الخضر حسين – كان شيخا للأزهر- الذي أخرج كتابه اسمه "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، وقد أهدى الشيخ الأزهرى كتابه إلى "خزانة حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر المعظم، راجيا أن يتفضل عليه بالقبول وأن يحرص على ملكه المجيد ويثبت دولته على دعائم العز والتأييد". وقال الشيخ "الخضر" إن المسلمين عرفوا علوم السياسة كغيرهم من الناس، وبرهن على ذلك بنصوص اعتبرها علوما سياسية مثل قول أحسن بن أبى الحسن البصرى "كن للمثل من المسلمين أخا، وللكبير ابنا وللصغير أبا"، ومثل قول معاوية الشهير "لو كان بينى وبين الناس شعرة ما انقطعت.. إذا شدوها أرخيتها وإذا أرخوها شددتها"، وقوله أيضا "لا أحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا". ولم يلبث نطاق المعركة أن اتسع، حتى شارك فيه كل إنسان تقريبا، وارتفعت حرارة الجدل حتى فقد أصحاب الأقلام أعصابهم وبدأوا يستعملون أقذع الأوصاف، وتزعمت الصحف التي تهاجم الكتاب جريدة "الأخبار" لسان حال الحزب الوطنى في ذلك الوقت، فهى تكتب في افتتاحيتها يوما تقول" لم تقع من نفوسنا موقع الاستغرابب إقدام الشيخ على عبد الرازق على إصدار هذا الكتاب لأننا نعرف عنه في كل حياته ضعفا في تحصيل العلوم، وطيشا في الرأى وإلحادا في العقيدة، هذا إلى أنه انغمر منذ سنين في بيئة ليس لها من أسباب ظهور الافتئات على الدين وتقمص أثواب الفلاسفة والملحدين وصار خليقا بلقب "الأستاذ المحقق و"العلامة الكبير" و"المصلح المجدد" وغير ذلك من الألقاب التي يتقارضونها ويسمون أنفسهم بها". ولم تقف إلى جانب "على عبد الرازق " إلا جريدة "السياسة"، فهى أولا جريدة حزب الأحرار الدستوريين الذي ينتسب إليه "آل عبد الرازق"، وهى ثانيا الجريدة التي جمعت أغلب الكتاب والمفكرين في ذلك الوقت مثل طه حسين والمازنى ومنصور فهمى ومحمد حسين هيكل. وصدرت "السياسة" يوما تنشر في صدرها الترخيصات التي تمنحها الحكومة المصرية للعاهرات ليزاولن الدعارة الرسمية، وترخيصات إدارة نوادى القمار وبيع الخمور، وسألت الدولة الإسلامية ومشايخ الأزهر الأجلاء: هل هذه الدعارة مباحة شرعا فأنتم تسكتون عنها؟ وهل هذا البحث الحر أزعجكم كما لم تزعجكم إباحة الدولة الإسلامية للدعارة والقمار ؟ "عبد الرازق أفندى" بحكم "علماء الأزهر" في 25 أغسطس أصدرت هيئة كبار العلماء حكمها على الشيخ الشاب بتجريده من العالمية لأنه "أتى بأمور تخالف الدين والقرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع الأمة". وصدرت "السياسة" في اليوم التالى وفى صدرها كلمة رصينة للشيخ على عبد الرازق تقول: لا جرم أننا تقبلنا مسرورين إخراجنا من زمرة العلماء، وقلنا كما يقول القوم الذين إذا خلصوا من الأذي وقالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الأذى وعافانا. وأعلن الشيخ الشاب أنه قد هجر ملابس الشيوخ وأنه سيصبح "أفنديا".