الأفكار لا تموت أبداً، وكلما وجدت متنفساً من هواء حلقت فى السماء، أما صانعو الأفكار فنحن نستدعيهم من العالم الآخر ونستعيد أرواحهم، ونجرى معهم حوارات حية.. هنا فقط « الاسم النظيف هو معيار نجاح الصحفي الشاب..كما أن باب النجاح مفتوح للصحفي، الذي لا يتملق الرأي العام ،والذي يؤمن بقضيته مادام علي حق»..هكذا أكد الأستاذ «محمد التابعى» فى حواره معى،من عالمه الذى انتقل إليه قبل 37 عاما. عندما سألتُ «أمير الصحافة»،هكذا كان لقبه،الذى لايزال يحتفظ به بين الموتى، عن «مفهوم النجاح»،أجاب فى ثقة:«النجاح في الصحافة –من وجهة نظرى- هو:»الاسم النظيف»،ثم صمت قليلا،وأكمل بعدها: «النجاح يختلف برغبة كل شخص، فهناك من يقيس النجاح بالفلوس، أما بالنسبة لي فهو:«الاسم النظيف»، وهو أهم من الثروة، فلو أنني عدتُ شابا أريد أن أنجح في الصحافة فلن أحيد عن الخطوات التي سرتُ فيها، وسوف أفرغ ما في صدري ولن يهمني الرأي العام، مادمت أقف بجانب الحق وأناصر المظلوم، فإذا كان الرأي العام لا يتقبل فلن أنزل علي رأيه، فمن واجب الصحفي أن يفرض رأيه، وكذلك المثابرة علي العمل هي سر نجاح الصحفي». تلك الكلمات المُبهجة،حتى وإن بدت للبعض تغريدا خارج السرب، أثلجت صدرى العليل،وأعادت إلى مهنة الصحافة اعتبارها إلى نفسى الأمّارة بالسوء،فى زمن تحولت الصحافة فيه إلى وسيلة إلى الاسترزاق والابتزاز المادي والمعنوي،ومهنة من لا مهنة له. أصدقكم القول،أننى عندما قررتُ الانتقال إلى الأستاذ «محمد التابعى»،لإجراء هذا الحوار،وقعتُ فى حيرة من أمرى،فهو شخص استثنائى فى تاريخ الصحافة المصرية والعربية،ويجب أن يكون الحوار معه موسوعيا ويواكب حياته الثرية صحفيا وسياسيا وغراميا،فغراميات «التابعى» معروفة،حتى أن صديقه «أنيس منصور» اعترضنى وأنا فى طريقى إليه،وحرضنى على سؤاله عن غرامياته،وأمدنى بورقة صغيرة كتب فيها أسماء صديقات «التابعى»،فاعتذرتُ منه بأدب جم،وأخبرته أننى أتيتُ إليه،لأتحدث معه فى أمرين لا ثالث لهما:أولهما الصحافة ومسيرته الحافلة معها،وثانيهما:الإخوان المسلمون،أما غرامياته فهذا أمر شخصى لا علاقة لى به،فلم يرق كلامى ل«أنيس منصور»،الذى تمتم بكلمات لم أجهد نفسى فى معرفتها. الأستاذ «التابعى»،الذى وجدتُه كما قرأتُ عنه متأنقا متألقا متوهجا،استقبلنى فى مكتب واسع،تنطق أركانه برغد الموت،تماما كرغد الحياة التى عاشها،فالرجل كان يتقاضى أعلى راتب بين أبناء جيله،حيث وصل راتبه فى خمسينيات القرن الماضى،إلى 7 آلاف جنيه شهريا. مكتب «التابعى» بدا مواكبا للعصر الحديث،حيث كان مُزودا بشاشة عرض كبيرة،وجهاز كمبيوتر،يجاوره «آى باد»،فضلا عن أثاث راق جدا،ولم يمض 5 دقائق على انتظارى،حتى دخل الرجل وصافحنى فى ود،وتزامن مع ذلك عرض التليفزيون أخبارا عن تحرير الجنود السبعة المختطفين،فانطلقنا من هذا الحادث المريب،الذى وصفه مضيفى بالمدبر من قيادات نافذة لأسباب سياسية بحتة. وعندما سألتُه عن مدبره،أجابنى:أطراف داخلية،وعندما سألتُه وما مصلحتها؟ أجاب:جرُّ البلاد إلى الفوضى،وعندما سألتُه:هل تقصد قيادات من جماعة الإخوان المسلمين،التى وصفها الأستاذ «سيد يس»،فى مقال له فى «فيتو»،ب«العصابة التى تحكم مصر»؟ أجابنى متسائلا:ولم لا؟ حينئذ سألته عن رأيه فى تلك الجماعة بصراحة،لا سيما أنه عاصرها عن قرب بعد ثورة يوليو،فأردف:» حقيقة الإخوان يمكن اختزالها فى ثلاثة أمور، أولا: أن أقطاب هذه الجماعة التى تزعم أنها قامت لنشر تعاليم الإسلام وتبصير المسلمين بأمور دينهم الحق، لا يعرفون شيئا من أصول دينهم،ثانيا: كلما ارتفع مقام الأخ فى الجماعة كلما هبط نصيبه من الشجاعة والصراحة وازداد نصيبه من الجبن والمراوغة والنفاق،ثالثا: نظامها قام على أسس مقتبسة من نظم البوليس السرى فى روسيا «الاوجيو» وفى ألمانيا «الجستابو» وفى إيطاليا «الأوفرا». قلتُ مُتخابثا:كل هذا القبح قرين تلك الجماعة المتمسحة بالإسلام»؟ فقال: نعم،وهل يساورك فى ذلك شك؟ قلتُ:لا،ولكن لم أكن متخيلا أنك تكرههم كل هذه الكراهية،فقال:هم يستحقون كل سوء،وتاريخهم مع ثورة يوليو وجمال عبد الناصر يشهد على ذلك. قلتُ:دعنى أتوقف عند عبارتك:» كلما ارتفع مقام الأخ فى الجماعة كلما هبط نصيبه من الشجاعة والصراحة وازداد نصيبه من الجبن والمراوغة والنفاق»،فلتزدنى من الشعر بيتا،فقال:الكلام واضح،ولا يحتاج شرحا ولا تفصيلا،فالحقيقة التى لا تقبل شكا،هى أن كبار قيادات الجماعة فى كل عصر وحين، هم الأكثر مكرا وخداعا،ثم أشار إلى خبر يطالعه على «الآى باد»،عن دعوة المرشد العام الحالى للجماعة،إلى ضرورة القبض على المتورطين فى خطف الجنود السبعة،فور تحريرهم،ثم التفت إلىّ،وتساءل ساخرا:هل تريد دليلا أقبح من ذلك على المكر والجبن والخداع؟ ثم أردف بلهجة عامية:»همه كده طول تاريخهم،يقتلوا القتيل،ويمشوا فى جنازته»! قلتُ :وبم تنصح الشباب الذين يتهافتون إذن على الانضمام للجماعة ويعتبرون انتقادها حربا على الإسلام؟ فأجاب:أشفق عليهم،فهم فى الأساس، «شبان وفتيان مسلمون امتلأت صدورهم بحماسة الشباب، وقلوبهم بحب الله والرسول، فذهبوا إلى جماعة الإخوان، يطلبون مزيداً من الهداية ومن نور الله.. وما أظن أن واحدًا منهم خطر بباله وهو يطرق باب جماعة الإخوان أن الجماعة سوف تجعل منه قاتلاً باسم الله الرحمن الرحيم، وغادرا لئيماً باسم الدين الحنيف،شبان سذج وأدوات سهلة طيعة، تناولها زعماء الإخوان وقادتها وصاغوها فى القالب الذى أرادوه،وأخرجوا منها آلات خرساء صماء، تتحرك بلا إرادة، وتنفذ مشيئة سواها بلا تعقيب نزولاً على حكم السمع والطاعة، وأن طاعة القيادة من طاعة الله». قلتُ:فى هذا السياق،لا يجب أن نتجاهل علاقتك بالقصر،وهل يجب أن يظل ولاء الصحفى للقصر أيا كان أداء قاطنه،حيث تحول بعض الصحفيين فور استيلاء الإخوان على حكم مصر إلى التسبيح بحمدهم بعدما كانوا أعدى أعدائهم قبل الثورة؟ فأجاب:علاقتى بالقصر كانت علاقة حب وكره، فكنتُ في البداية مع الملك، وكنتُ أطلق عليه «الملك المأمول والمحبوب»، وكانت له أخطاؤه، وفي الوقت نفسه كان ضحية الحاشية الفاسدة من حوله، وكنت أقول رأيى فيه بمنتهي الصراحة ، وكنتُ أرفض السفر علي نفقته، حتي لا أصبح مدينا لأحد.. و عندما وصل الملك فاروق لحد الطغيان ووصل مداه كتبتُ عدة مقالات، منها: «يحيا الظلم»، و«يحيا ظلم كل جبار».. قلت:على ذكر الملك فاروق،فلتحدثنى إذن عن علاقتك بالرئيسين الراحلين:جمال عبد الناصر والسادات،فقال «التابعى»: علاقتى مع قادة ثورة يوليو كانت طيبة في البداية ، وكنتُ أستقبلهم في مكتبى بمجلة «آخر ساعة»،التى أسستُها قبل أن تؤول إلى على ومصطفى أمين،وكنتُ بمثابة مستشار لهم،أقدم لهم نصائح سياسية، لأننى كنتُ آمل أن تصحح الثورة ما أفسدته الفترة الأخيرة من الحكم الملكي، لكن عندما رأيتُ ما حدث، وكان الفساد قد أصبح أكثر مما كان عليه، انتقدتُ عبد الناصر وانسحبتُ من الساحة..أما السادات فربطتنى به علاقة طيبة ،حتى أنه امر بطبع كتابى من أسرار السياسة» مرتين. قلت:لنعد إلى الوراء كثيرا،ولنخرج من أجواء السياسة،لتحدثنى عن «حندس» وحكايته،فضحك الرجل بملء شدقيه،كما يقول أهل اللغة،ثم أردف:عرفتُ طريقى إلى الصحافة،عبر مقالات فنية،كنتُ أنشرها فى صحيفة «الأهرام»،فى عشرينيات القرن الماضى،بتوقيع :حندس»،وتعنى فى اللغة «الظلام الدامس»! فقاطعته:ولماذا كنت توقع مقالاتك باسم مستعار؟ فأجاب: لأننى كنت أخشي المسئولية،فقد كنت يومئذ موظفا بسكرتارية مجلس النواب،قاطعتُه مجددا:وهل تذكر باكورة مقالاتك؟ فأجاب بعد تفكير:نعم،فقد كانت أولي مقالاتى النقدية عن مسرحية «غادة الكاميليا»، التي قدمها مسرح «رمسيس» في العشرينيات, وبعدها كتبتُ مقالات أخري مشابهة في عدة صحف مثل: أبو الهول, والسياسة والنظام بجانب الأهرام والاجيبشيان ميل وبنفس التوقيع. قلتُ:أعلم أنك أسست لمدرسة جديدة فى الكتابة الصحفية،فما ملامحها؟ فأجاب:أسستُ للمدرسة المبسطة فى الكتابة الصحفية،فخلصتُها من السجع والكلمات الثقيلة،كما أنى أول من أدخلتُ إلى الصحافة المقال والقصة الخبرية،فضلا عن فن الكاريكاتير السياسي وكونتُ ثنائيا مع فنان الكاريكاتير الأرمني صاروخان. قلت:على ذكر الكتابة الصحفية المبسطة،أعلم أنك كنت تميل إلى السخرية اللاذعة فى الكتابة أيضا،حتى انك كنت تطلق عبارات وأوصافا ساخرة على كبار الساسة،فهل تذكر بعضا منها؟ فأطلق «التابعى» ضحكة عالية،ثم قال:نعم فقد كنتُ أطلق على رئيس الوزراء «مصطفي النحاس باشا» لقب «حامل عمامة التقي والورع», ورئيس الوزراء «إسماعيل صدقي باشا» لقب «حامل كليشيه الابتسامات الصناعية»,وكنت أصف رئيس الوزراء « عبدالفتاح يحيي باشا».. ب» وزير الدوخة و الأسبرين», ،ورئيس الوزراء «محمد محمود باشا»..ب«صاحب اليد الخشبية»,ورئيس الوزراء « توفيق نسيم باشا»..ب« رئيس حكومة هوبنار» فى إشارة إلى اسم الفتاة النمساوية التي أراد أن يتزوجها وهو فوق السبعين, ورئيس حزب الاتحاد حلمي عيسي باشا ..ب«وزير التقاليد وقطع العيش», ووزير العدل «احمد خشبة باشا»..ب« وزير الحلاوة الطحينية» و «رب المقالب و المثالب». قلت:وبالنسبة لأدب الرحلات؟ فقال «التابعى»:بالفعل ..كتب كتبا عدة فى هذا المجال،مثل:«حكايات من الشرق والغرب» و«رسائل وأسرار».. قلت:ختاما،بم تنصح الأجيال الصحفية الناشئة فى وقت لم يعد للمهنة أصول ولا ضوابط؟ أجاب التابعى:»يجب على كل صحفى شاب أن يدرس نفسه وميوله الحقيقية ويحاول أن يزن كفايته واستعداده، لأن الصحافة استعداد وموهبة قبل أن تكون دراسة، وليست الصحافة مجرد كتابة مقالات, فالصحفي الموهوب يستطيع من غير أن يكون قد درس فنون الصحافة, أن يخلق من الحبة قبة كما يقولون, ومن الخبر الصغير خبرا مثيرا, بينما يموت أكبر وأهم خبر علي قلم ليس لديه الموهبة الصحفية, وقد عرفتُ في عملي الصحفي فعلا صحفيين، أغفل عن ذكر أسمائهم، يقصون عليك الخبر الذي سمعوه فتجده خبرا هاما حقيقة ومثيرا و لكن إذا جلسوا الي المكتب ليكتبوه تخاذل الخبر ومات علي الورق..كما أنصحهم بأهمية الاسم النظيف ،لأنه هو رأس مال الصحفي الجاد..ويجب أن تكون رسالة الصحفى محاربة الظلم أياً كان، وأن يقول ما يعتقد أنه الحق ولو خالف في ذلك الرأي العام، فالصحافة تستطيع أن توجه الرأى العام،لا أن تتملقه أو تكتب ما يسره أو يرضيه..والأهم من ذلك كله أن يتحرى الصدق والحقيقة،فلأن يفوته 100 سبق صحفى، أفضل من أن ينشر خبرا كاذبا»...حينئذ..لملمتُ أشيائى،وشكرتُه على هذه الدروس القيمة،واستأذنتُه،على أمل أن يتجدد اللقاء فى ذكراه المقبلة. C.V جذور عائلة محمد التابعي من مدينة المنصورة بمحافظة الدقهلية ،حيث وُلد فى عام 1896،فيما تؤكد الأوراق الرسمية أنه من مواليد 1903. أسمته والدته علي اسم الشيخ «محمد التابعي»، و«محمد التابعي» هو اسمه المركب،أما والده فاسمه محمد وهبة. من أبرز تلاميذه: مصطفي وعلي أمين وإحسان عبدالقدوس وكامل الشناوي وموسي صبري وصبري أبو المجد وأنيس منصور ولمعي المطيعي وإبراهيم الورداني وأحمد رجب وعباس الطرابيلي. قال محمد حسنين هيكل عنه: كانت تجربة العمل مع الأستاذ التابعي ممتعة وأشهد أنني تعلمت منه الكثير ولقد وجدتني شديد الإعجاب بأسلوبه الحلو وفي البداية رحت أقلده».. قال عنه تلميذه مصطفي أمين: «كانت مقالاته تهز الحكومات وتسقط الوزارات ولا يخاف ولا يتراجع». قال موسى صبرى عنه: «اذا كانت الصحافة قد أطلقوا عليها صاحبة الجلالة، فالتابعي هو صاحب الجلالة».. أسس التابعي مجلة آخر ساعة الشهيرة عام1934 وشارك في تأسيس جريدة «المصري» مع محمود أبو الفتح وكريم ثابت. محمد التابعي هو الصحفي المصري الوحيد الذي رافق العائلة الملكية في رحلتها الطويلة لأوروبا عام1937 . شارك فى إنشاء نقابة الصحفيين عام 1941،ورغم تكريمه من عدة نقابات عربية إلا أنه لم يتم تكريمه فى مصر. توفى محمد التابعى عام 1976 عن عمر يناهز 80 عاما.