حسنا فعل الرئيس عبد الفتاح السيسي في أحد خطاباته في 2015 حينما نادى بتجديد الخطاب الديني، وفزع وقتها من فزع وانفتح باب الحيرة على مصراعيه، ربما أن الطلب كان ومازال تقدميا وسابقا لتوقع كثيرين وخاصة من وقف على ضفاف الاستسهال، فكيف يكون هذا الخطاب، وما المقصود به ومنه، وهل نحن نعايش ونستهلك خطابا قديما لايناسب الوقت أو العصر الذي نعيش فيه؟ ولماذا الآن؟ وسأل سائل، كيف يكون هذا الخطاب، وهذا السائل من مختلف مستويات الفكر والثقافة في مصر، في الحقيقة نحن نحتاج إلى ما هو أكثر من هذا التجديد، ولكن نحتاج أكثر إلى توضيح ماهية هذا الخطاب وهذا التجديد فيه، وماذا يعني التجديد، وهل يعني التجديد حداثة كاملة، أم مطاوعة وقولبة للنص ليتماهى مع الحداثة والواقع الذي نعيشه، ومؤخرا ماذا يعني بالخطاب؟ وهل هو السرد أم الخطابة من على المنابر يوم الجمعة والعيدين أم دروس الوعظ والإرشاد؟، وهل الخطاب بمعنى ثقافي شامل، بأن يكون كل المحتوى الديني ثقافيا موافقا للروح الجديدة في عصرنا وليس كما فهم البعض وحاول إفهام الآخرين أنه مجرد أن ترتدي بدلة فخمة أو تتكلم بالعامية المخلوطة ببعض الفصحى بأسلوب نجوم التنمية البشرية أو الوعاظ البروتستانت. ولنعد إلى أزمة النص، ولعلي أذكر أنني في محاضرة ثقافية عن روح الاعتدال والتسامح الديني في الفكر الأزهري وكان عنوانها "الإسلام بين الوسطية والاعتدال والتشدد" في قصر ثقافة الجيزة في فبراير 2013، وفي أثناء حكم الإخوان، تحدثت عن ضرورة تجديد الخطاب الديني وإلا انتصر الخطاب المتشدد والمتطرف وسقط الاعتدال، لأن الاعتدال ليس ردا في حد ذاته على التطرف.. كما أن الاعتدال بداخله كما يرى المتشدد تفريطا في الثوابت من حيث القراءة التي تجيز التأويل لصالح تغير العصر والظروف مع بقاء النص الذي يحرم مكتوبا كما هو بكل ما فيه من مخاطر دون مراجعة أو قراءة جديدة للآية أو الحديث النبوي في ضوء القرآن وتفسيره العصري وظروف التنزيل مع مراعاة عصر رواية وكتابة الحديث، وهو ما يفعله الأزهر فعلا بشكل شفهي ومتقطع وبدون مشروع متكامل، وظل في إطار تسهيل الفتوى بقبول ما كان محرما في عدة مسائل شرعية جاءت بها الأحاديث ليحللها، مثل تحريم الغناء والمعازف فقال شيوخ الأزهر فيها إن الغناء ما لم يتضمن محرما أو دعوة للفسق أو خروجا على الشريعة سواء الكلام أو الموسيقى إن لم تدع هي أيضا إلى خلاعة فيمكن أن تكون حلالا. ولكن لم يتطرق ذلك إلى النص الذي حرم الموسيقى والغناء في ذاته وما زال موجودا بباطن الكتب، مما حدا بالمتشددين فحرموها نهائيا طبقا للنص بعيدا عن ظروف الزمان والمكان فظن أن تسهيل الأزهر في الفتوى نوع من التفريط والتساهل في النص مقارنة بموقفه المتشدد الذي يراه أكثر التزاما بالنص من الأزهر (المعتدل) على اعتبار أن النص حرم فعلا ولكن الفتوى الأزهرية حللت في ظل ضوابط شرعية قد تكون غير ملزمة له.. هكذا كان الأمر ومازال ورغم أن الدستور والقانون قد منحا الأزهر صلاحيات - خاصة في الدستور الأخير- للتشريع الديني وتنقية التراث مما علق به من أوامر ونواه تتعدى الزمن والحدود إلا أن هذا الحق ما زال لم يستخدم حتى الآن، هو حق أرادهم الرئيس أن يستخدموه ولكنني أعتقد وبشكل شخصي وكمتابع للأمر من منظار عملي وعلمي أن بعض الكيانات المحافظة والتقليدية داخل الأزهر الشريف هي التي تقف ضد ذلك حتى الآن ولمدة تزيد عن ثلاثة أعوام كحجر عثرة في سبيل تنقية التراث.. إّذ نحتاج تفسير جديد وعصري للقرآن وفقه وتفسير للأحاديث واستبعاد منها ما يختلف عن القرآن ومقاصد الشريعة طبقا لحديث الرسول الأكرم (ص) حين قال "ما خالف القرآن فهو رد" أي أنه – من وجهة نظري المتواضعة - يجب أن يلغى ويحذف بأسلوبين إما الحذف الكامل، أو أن يوضع تصحيح له وشرح تفسيري في هوامش داخل مراجع وكتب جديدة، ونحتاج ذلك أيضا في التراث والسيرة لتصحيح ما تعارض منها مع نصوص أخرى بأسلوب التحقيق التاريخي والعلمي مثل الأمور التي تسئ إلى شخص الرسول الأعظم وتظهره بصورة سلبية استغلها المستشرقون في تشويه نبي الإسلام. ومن ورائهم حاليا رسامو الكاركاتير إذ إنها من هذه الكتب التي كتبت في عصور لا تخلو من عداء مع النبي وبني هاشم إجمالا وتصحيح ما جاء بها انتصارا للرسول الكريم، هنا نحتاج إلى قراءة جديدة للقرآن في ضوء العصر مع تنقية التراث والسيرة والحديث والفقه ومنها ما عرفناه في فقه الزواج والمعاملات وخاصة المرأة والأسير ثم نظرة أخرى على فقه الرق والعبودية وبيع الجواري بالأسواق، وما يتم تدريسه حاليا في شأن جواز أكل لحم الأسير مع المقارنة بقوانين إنهاء الرق وقوانين واتفاقيات معاملة الأسرى في العالم والتي فرضها التطور الإنساني والحضارة بوجه عام.. حتى أن العالم الغربي الذي كان أكثر توحشا وتطرفا وهمجية ويعاني من القتل على الهوية وتحكم الكنيسة في المجتمع في ما عرف بالحكم الديني أو الفاشية الثيولوجية منذ 300 عام تقريبا قد سبقنا لنقد الكتاب المقدس وتطوير خطابه الديني تماما، وبعض الدول الإسلامية إلى الآن لا تعترف بإنهاء الرق وتمارسه عمليا ورسميا (موريتانيا) باعتباره جزءا من الدين وحض عليه الشرع، بينما القرآن واضحا يمهد لقوانين إنهاء الرق فيما بعد حينما قال (فك رقبة) أي دعوة لإنهاء الرق مع الزمن ومع تطور البشرية ورقيها، ولأن الرق والجزية كانتا من أدوات النظام العالمي وقتها ولم يخترعهما الإسلام، فكان لابد من إنهائهما معآ مع الانتهاء من ضرورتيهما وهذا ما نعرفه بجمود النص مع الزمن. ولعل آخر محاولة في خمسينيات القرن الماضي حينما ظهر رجل يقال له "الألباني" وقرر مراجعة الحديث ولكن للأسف بنفس الأدوات القديمة وبطريقة غير علمية على الإطلاق أساسها مناقشة السند، والسند هم الأفراد المسنود إليهم رواية الحديث، لكن هذا لا يعطى دقة حيث إنه لم يحضر السند ولم يقابله ولم يتأكد من صحة وجودهم في التاريخ إلا بما تم نقله عنهم في أمهات الكتب من ألف وخمسمائة عام وكان أمام الألباني فرصة ذهبية لم يمارسها أحد من قبل بأن يراجع ويمحص متن الحديث ويرى في ضوء القرآن والفقه ومقاصد الشريعة هل هذا هو حديث رسول الله أم أنه قول زائف منسوب إليه.. هذا ما طلبه الرئيس من الأزهر الشريف وهو أن نبحث عن الدين في ضوء العصر ومتطلباته، ويحتاج الأمر في ذلك ليس إلى علماء الأزهر الشريف فقط ولكن لعلماء من كافة التخصصات مثل الأطباء وعلماء الجيولوجيا والمثقفين والأدباء وعلماء الاجتماع وعلماء اللغة وخبراء التغذية والموسيقى والغناء وباقى الفنون وعلوم الاتصال والمواصلات والإعلام وغيرهم كي نخرج بما يناسب عصرنا ونعطي خطابا جديدا طازجا لنص لا يجب أن نلغيه وإنما نقرأه في ظرف جديد برؤية شاملة علمية وليست فقهية فقط، ولو حدث ذلك لوصلنا إلى إسلام عصري يفوق إنسانية البوذية ويتخطى إسلام الطقوس والشكليات والعقم الفكري والتأخر عن العالم في كثير من القضايا المهمة. وخاصة فيما يتعلق بأمور جديدة فرضتها تحديات العلم مثل معاملات البنوك والبورصة ونقل الدم وتأجير الأعضاء ونقلها والتبرع بها والتجارة فيها وتأجير الأرحام وعلاقتها بإختلاط الأنساب ومدى قابلية ذلك إنسانيآ وغيرها من القضايا وقد نصل إلى ما وصلت إليه فلسفات وديانات وضعية مثل الكنفوشيوسية والبوذية والزرادشتية وحتى البهائية في البعد الإنساني والتي يفوقهم الإسلام جميعآ فيها، ولكن صورته الحقيقية وجوهر معدنه رآن عليه كثير من الشكلانية والطقوسية التي عطلت مفاصله، ولن ينقذه سوي تجديد هذا الخطاب إذ وقتها لن يكون بيننا متطرف أو إرهابي يستند إلى نصوص تعطيه الحق في تشويه الصورة الإنسانية والمثالية للدين وما تفرع عن هذه النصوص من إستهزاء عالمي بتفجير المتشددين لأنفسهم مقابل الفوز بالحور العين في الآخرة حتى أصبحنا سخرية العالم.. ولا يجب أن نتملص منهم ونقول نحن معتدلون وهم متطرفون، ذلك لأن النصوص التي تحكمنا وتحكمهم هي نصوص واحدة، ولكن نحن نؤولها وهم لا يؤولونها بل يتبعونها حذو النعل بالنعل، وحين حطموا التماثيل والتي نراها كمعتدلين رمزا لحضارة، أو قرروا هدم آثار مصر كما هدموا تماثيل بوذية في أفغانستان وآشورية في العراق إنما هدموها بنص حديث.. وقد يكون الحديث النبوي قال أن التماثيل والرسم حرام ولكن إمامنا الشيخ محمد عبده عام 1905 قرر أنها ليست حراما لأنها لا تعبد من دون الله، بينما لم ينص الحديث على ذلك وربما رأى الشيخ أن تحريمها كان بسبب الخوف من العودة لعبادتها في بدايات عهد الإسلام، وبهذه الفتوى الأزهرية من شيخ الأزهر محمد عبده تم إنشاء كلية الفنون الجميلة في مصر 1908 وانتشرت التماثيل في مصر بدءآ من محمود خليل ومحمود مختار وإنتهاءآ بالسجيني وغيرهم.. بينما يظل المتطرف أو المتشدد المتمسك بالنص يرى غير ذلك لأننا جميعا في حالة عدم وجود تحديث رسمي للخطاب الديني بنصوص ورؤية جديدة حكما بيننا وبينه، أصبح هذا المتشدد الآن يعتبر نفسه هو المحق والصحيح مجازا لتمسكه بظاهر النص، ما دمنا لم نصحح ونجدد ونحدث هذا الخطاب، وخذ عندك المقارنة أيضا بتحطيم أدوات الغناء والموسيقى وإنهاء حفلاتها بالجامعات من السبعينيات وحتى تسعينيات القرن العشرين من هؤلاء المتشددين بسبب التحريم القاطع في الحديث لها، وهكذا كل ذلك يدعو إلى رؤية جديدة ولجنة ضخمة يترأسها الأزهر الشريف للخروج ورؤية جديدة رسمية، ووقتها فقط لن نجد متطرفا يجذب إليه أحد بالتعاطف بحجة أن الأزهر من وجهة نظره مفرط في الدين والذي نسميه نحن (الاعتدال والتسامح والوسطية) ويرى نفسه الأكثر التزاما بالنص بينما نسميه نحن (المتطرف والمتشدد). والخروج من هذا الكابوس أو النفق المظلم لن يكون إلا كما سبق وقلنا بلجنة علمية كبرى برئاسة الأزهر الشريف لقراءة هذه النصوص بعيون عصرية وإن استلزم ذلك عدة سنوات إذ لا يكفي أن نقول إن الإسلام بريء من الإرهاب أو أن الإرهابيين لا يمثلون الدين الحنيف، ولن يصدقنا أحد وقتها لأن التكفير وإنكار الآخر وعدم قبوله أو التسامح معه هو جزء أصيل من الخطاب الديني القديم الجامد في نصوصه التي مر عليها ألف وخمس مائة عام دون تجديد. ويكفي أن نشير إلى أن قضية الإرهاب في العالم وحمل السلاح في وجه الناس تبدأ بفتوى تكفير وقراءة خاطئة لآيات سورة التوبة ومنها نص السيف أو الآية رقم 29 والتي تدعو لقتل المشركين كافة ومن لم يدخل في الدين، ولم يتم تفسيرها على ضوء عصرها وإنها نص تاريخي يقصد به فقط المشركين والكفار وأهل الكتاب الذين نقضوا عهدهم مع الرسول فقط ولا تنسحب على من جاء بعدهم، وهنا لو تم تعديل الخطاب فيها سيصبح الأزهر مرجعية حقيقية لنا على هؤلاء المتطرفين والمتشددين ولن نجد غضاضة من أن نعتبرهم بحق "خوارج" عن الدين بل والإنسانية. كان هذا عن التكفير ويتبقى تغيير المنكر باليد وحمل السلاح ضد الآخرين إذ ينطلق من حديث "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده إن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان"، ومعنى هذا أن الأفضلية لتغيير المنكر باليد مما يعطى رخصة لكل من هو مؤمن بالحديث من الاعتداء على الآخرين، والحديث ليس له معنى تغيير المنكر باليد من حق الحاكم فقط أو الدولة لأنها تأويلات المحدثين وتختلف عن نص الحديث كما هو والذي عمم ولم يخصص تغيير المنكر بالقوة وباليد لغير الحاكم. لذا فمن حق كل مسلم أن يستخدم القوة والسلاح وكفى بذلك مبررا للملتزم بنص الحديث (المتشدد والمتطرف) بينما من رأى أن تغيير المنكر وظيفة الدولة وصف نفسه بالمعتدل والوسطي وهنا تنشأ إشكالية من يحكم بين الطرفين إلا الخطاب الحديث للدين؟ وقد رأينا هنا أن آية تم تفسيرها في غير سياقها التاريخي والمعرفي وكذلك حديث نبوي قد أعطيا الحق في التكفير والقتل مما يعطى كما سبق وقلنا مسئولية ضخمة على أزهر مستنير ننتظره قريبا يسعى لفهم وإفهام الآخرين أن هناك إسلاما حقيقيا مستنيرا بالنص وليس بالتأويل الذي يميل إلى الاعتدال أي ما يطلق عليه تحديث الخطاب الديني شفهيا وبعكس ما قصدناه هنا أن يكون تحديث الخطاب مكتوبا ورسميا وملزما للجميع، على أن يكون متحضرا وعلميا ومعتدلا ومتوازنا بما نأمله وعهدناه من أزهرنا الشريف دائما.