باغته ألم مفاجئ.. كان من الممكن احتماله.. من هنا بدأت الحكاية، لو مرر يده اليمنى على موضع الألم الذي ضرب ذراعه اليسرى، لوضع لحكايته نهاية متوقعة.. شخص شعر بالألم، تحرك لإيقافه.. ونجح.. لكنه لم يكن يمتلك المقدرة على هذا الفعل.. فصنع قصتنا التالية. قبل لحظات من وخزة الألم.. ارتعشت ذراعه.. ألقى نظرة متأملة عليها، ابتسم لارتعاشتها المفاجئة، غير أن ابتسامته غير المبررة تلك تراجعت، بعدما وجد نتفًا صغيرة من جلده تقشرت وبرز الأحمر متحديًا خوفه ورهبته من بشاعة اللون المتمرد، انتفضت روحه.. لا يعرف كيف يتعامل مع المشاهد المتمردة.. أغمض عينيه للحظات، هز رأسه، فتح اليمنى، ترك اليسرى مغمضة، لم يتغير المشهد.. قرر الذهاب للوالدة الطيبة، فقد سبق وأن جعلته يبرأ من الصداع.. يذكر أنها مررت يدها اليمنى على رأسه.. في العادة.. تتمتم بكلمات غير مفهومة حتى يطفو جسده خفيفًا مرحًا على سطح بحر النوم. الألم مستمر.. قرر أن يسألها! العاشرة مساءً.. وقتها اصطدم ب«ثورة الأحمر على ذراعه».. نشرة التاسعة انتهت منذ أكثر من نصف ساعة، إذن.. الأم لن تكون متاحة هذا الوقت، تنام بعد التاسعة ب10 دقائق.. لا تكسر عادتها تلك إلا في أضيق الحدود.. وارتعاشة جسد طفل.. تمرد سنتميترات من الجلد.. ولون وقح يحاول فرض سيطرته.. جميعها أسباب لا تستحق أن يتجاوزا ما تم الاتفاق عليه. الجدة.. وجهته الثانية التي قرر الاتجاه إليها، لكنها هي الأخرى كابنتها.. تنام في التاسعة.. تستمع بنصف عين ل«حديث الروح».. تدعو ربها أن يهبها الصحة لتحج إلى بيته قبل أن تصعد إلى السماء.. وتنام. .. الأمهات دقيقات جدًّا في مواعيد غيابهن.. بالقطع.. لن يذهب لأبيه.. فالرجل منذ 3 سنوات و116 يومًا بالضبط، تركه في «حِجر أمه»، بعدما قرر الانزواء في الدور الثاني يطالع الكتب الصفراء التي أنفق عليها ثمن 10 قراريط في رحلة بحثه عن «اللقية». دورة كاملة منحها لجسده قبل أن يغلق باب غرفته.. وحيدًا كان.. جلس على حافة سريره، اهتزازات جسده الرتيبة ذهابًا وإيابًا لم تشغل باله.. شيخ الجامع عندما ذهبت إليه أمه تشكو إليه «عفاريت القيالة»، التي ضربت طفلها على رأسه، وجعلته يهتز.. يرتعش.. يتبول على نفسه كل ليلة في موعد محدد.. وعدها أن يدعو له في صلاة الفجر.. انقضت 365 صلاة وصباح، لم تتوقف ارتعاشات وليدها، فكرهت الشيخ.. قاطعت زوجته.. ولم تترك واحدة من جيرانها دون أن تكشف لها أكاذيبه، وتنصحها بالحفاظ على الأوزة التي ترسلها إلى بيته ليلة عاشوراء.. «هياكُلها ويتبسط.. وإحنا ننام نحلم ببكرة اللي هيجي بالعلاج».. جملتها الأخيرة أعادتها على مسامع جاراتها وهي تدير معركة «تجويع الشيخ وأهل بيته». توقفت الارتعاشات.. الصوت الوقح الذي كانت تئن به مفاصل السرير الحديدي ابتلعه صمت الليلة الطويلة.. انتصب واقفًا.. للمرة الثانية دار حول نفسه، سقط أرضًا قبل أن يكمل دورته الاعتيادية، حاول الوقوف مجددًا.. فشل.. تحرك بجسده على الأرض.. زحف تحديدًا.. التقى ظهره حائطَ غرفتِه.. أسند الظهر المتعب.. مسح مخاطًا تدلى من أنفه في كُم جلبابه الباهت.. لم يكن جلبابه من الأساس.. منحته أمه له بعدما تخلي عنه الوالد الحاضر الغائب، متسخًا كان.. مساحات الوسخ تتضح أكثر بعد كل مرة تغسله فيها الأم التي فشلت في خياطة الجزء المقطوع بمحاذاة المؤخرة.. للحق.. حاولت كثيرًا.. غير أن خيوطها كانت تتوه كل مرة بين مساحات الرقع الممتدة.. فتجاهلت القطع في المرة الرابعة.. وقالت: «أهو للنوم.. والحيطان تُستر اللي الزمن عاوز يفضحه». تجرأ على جرحه المفاجئ.. لم يتجرأ منذ سنوات طويلة على شيء.. حتى دجاجات أمه كان يتركها تعبث بقدميه.. تنقر إصبعه الأكبر، يضحك من «دغدغة المنقار المدبب».. صوته يعلو أكثر عندما يجلس ويترك ذكر الإوز يتسلق ظهره.. ينام على بطنه.. يترك الذكر يتحرك منفردًا فوق ظهره.. توقف عن متعته تلك بعدما نهرته الجدة في أحد صباحات يوليو.. وجدته على وضعه هذا.. ضربة واحدة من عصا الليمون التي تتوكأ عليها أزاحت ذكر الإوز من فوق ظهر حفيدها.. والثانية توقفت في الهواء.. قبل أن تلمس رأس الطفل.. زعقت بصوت غاصت كلماته في وحل غاضب: «مفيش دكر يسيب دكر يركب على ضهره».. ثلاثة أيام لم يتحدثا خلالها بعد الواقعة.. وفي الرابع منها، قبل أن يبدأ «شيخ حديث الروح».. مال على وجهها.. طبع قبلة ممزوجة ب«مخاط لزج» على خدها.. ونام مرتاحًا بلا أية ارتعاشات في أحضانها. بتردد.. مرر ظفر اليد اليمنى على مكان الألم.. لم يحدث جديد.. أغمض عينيه.. أعاد المحاولة.. كان قاسيًا هذه المرة.. ضغط بكل ما يمتلك من قوة على موضع الجرح.. حك ظفره.. فتح عينه اليسرى.. لمح اللون الأحمر يفطو.. بقعة صغيرة تمددت مسرعة بعرض يديه.. صرخ... ارتفع صوته الواهن متألمًا.. متوجعًا.. ويأسًا. الأم لم تنتبه لصرخات طفلها.. الجدة ترقد بعيدًا عن مرمى الصرخات.. الأب الغائب الوحيد الذي تلقف صرخات الابن.. دار في غرفته عدة دورات.. منذ سنوات ظل بعيدًا عن الأسرة.. جبانًا كان عندما انسحب من المشهد، رافضًا تربية ابنه.. غضبه المتتالي من صوت مفاصل السرير الحديدي لم يتمكن من كبحه.. في اليوم الأول ضرب الزوجة التي لم تضع الزيت بين المفاصل لتكف عن الأنين المزعج.. في الثاني.. تركها تنام على الأرض، بعدما رفضت مداعبته الخشنة، وفي الثالث أخبرها أنها من اليوم وحتى وفاته مثل أمه، بعدما حالت دون أن يضرب وليده الصغير المضطرب الذي أشعل الليل بصرخاته الخائفة، وارتعاشاته المستمرة وطلبه أن ينام في حضن الأم.. وفي الخامس.. والسادس والسابع..و.. و..و.. باع الأرض.. منتقلًا إلى غرفة الدور الثاني..! الصرخات الموجعة لم تتوقف.. ألقى الأب واحدًا من كتبه الصفراء، قبل أن ينهي دورته الأخيرة.. بكل ما فيه من غضب أطلق زفرة.. غاضبًا حد الثورة كان.. دفع باب غرفة الابن.. ووقف لثوانٍ يبحث عنه.. السرير صامت.. مفاصله توقفت عن الأنين.. شباك الغرفة مغلق بأخشاب ومسامير لم تجد القوة الكافية لدقها جيدًا في «لحم الخشب» فبرزت رؤوسها نافرة حادة.. غاضبة. دورة كاملة منحتها عيناها للغرفة.. لم يلحظ طفله راقدًا في أرضها.. الصرخات الواهنة أرشدته أخيرًا لموضع صاحبها.. بنصف ركبة انحني أرضًا.. وحيده يئن.. يمسك ذراعه.. قطرات من الدماء تطفو وتتحرك بتأني.. دموع تملأ الوجه الطفولي.. امتزجت ب«مخاطه» المعتاد.. انتصب واقفًا دون أي كلمة.. ألقي نظرة جوفاء على الجرح.. وخرج.. لم يعط ظهره لابنه.. خرج متقهقرًا من الغرفة.. عائدًا لكتابه الأصفر. من جديد.. عادت الارتعاشات من جديد، لا صوت كانت هذه المرة، السرير ومفاصله خرجا من معادلة الألم.. الحائط يتلقي الضربات المتتالية الرتيبة، أنين بدأ يخفت من التعب.. لكنه لا يزال سيد المشهد، كلمات.. بل أحرف مشوهة تولد ميتة قبل عبورها فتحة الفم.. الشفاه ترتعش هي الأخرى، زرقة بسيطة بدأت تطفو.. الشفة السفلى كانت الأكثر طمعًا في الأزرق الذي يحاول احتلال المشهد.. منفردًا لا شريك له.. غاب عن الوعي.. نام متكئًا على الحائط، والأنين انسحب أخيرًا من المشهد.. تاركًا بقع الدماء تجف.. بعدما ضمدتها أصابع اليد اليمنى.