"هليت يا ربيع.. هل هلالك.. متعت الدنيا بجمالك.. هل هلالك.. نبهت الورد وكان نايم فوق عرشه الأخضر.. والطير جمعته وكان هايم في الروض متحير".. كلمات رسم بها الراحل محمد عبد الوهاب من خلال صوته البديع خير صورة للربيع الذي يأتى ويزيح مع قدومه كآبة الشتاء وضبابه.. ويزين الدنيا بألوان من الزهور التي تتفتح وتنشر عبيرها بعد شهور من الإغراق في النوم. وفى مصرنا قد نجد في الشوارع والحدائق بعض زهور تشى بقدوم فصل الجمال وتمنحنا شعورًا بلمساته.. ولكن ثمة عزبة بالقرب من القناطر الخيرية تُدعى "عزبة الأهالي".. تُعد هي منبع الجمال وخير وجهة للراغبين في الإحساس بالربيع وورده وألوانه.. فأراضيها تحتضن ألوان من نباتات الزينة بلونها الأخضر الزاهى.. وعلى امتداد أطرافها تبدو الصوب متراصة.. وتتزين مزارعها بأشكال وأنواع لا حصر لها من الزهور التي توزع محليًا ودوليًا.. حتى أنها استحقت عن جدارة لقب "مملكة الورد". الورد يزين أرجاء "عزبة الأهالي" أو "مملكة الورد" ومن بين مزارع "المملكة" المتعددة.. تُعد مزرعة الحاج عبد الجواد من كبريات المزارع من حيث المساحة والإنتاج، ويمكن للمتجول في أرجائها في وقتنا الحالى أن يتسلل إليه شعور حقيقي بجمال الربيع ووقعه على الزهور.. فالورود متفتحة وألوانها تسحر العين.. ولكن أحمد عبد الجواد، ابن صاحب هذه المزرعة، ووريث المهنة أبًا عن جد، نسف في جملة واحدة كل الأفكار التي تربط بين الورود الزاهية والربيع: "الورد بقى موجود عندنا على طول.. يعنى الجو عندنا ربيع طول السنة". في أكبر مزارع الورد في عزبة الأهالي.. "الجو عندنا ربيع طول السنة" يتذكر أحمد الذي يعمل بهذه المهنة منذ نعومة أظافره، كيف كان الربيع في الماضي شهر الجمال.. تتفتح فيه الزهور البلدي ذات الروائح الساحرة، حينما كان جده يزرع في "الكشف"، أي في الهواء الطلق، ألوانًا من الورود.. الداليا والجلاديوس والزنبق التي لم يوجد لهم مثيلًا آنذاك وكانت هذه الورود هي الأساس.. كانت تتفتح مع انتهاء فصل الشتاء ويحين موعد قصها مع قدوم الربيع، ولكن كل هذا أصبح في "أيامنا" الحالية دربًا من دروب ماضٍ انقضى. قبل عقود قليلة.. كان الربيع يطل ويصحي الورد معاه كان السر في ذهاب هذا الخيال عن الربيع في طى النسيان يكمن في معرفة المزارعين بثقافة "الصوب".. هذه الصوب التي قلبت دنيا زراعة الورود رأسًا على عقب ومكنت المزارعين من الحصول على إنتاجية طوال العام، وعنها يحكى أحمد "الصوب غيرت المعايير.. ما بقاش الربيع هو الشهر المميز اللى بتتفتح فيه الورود.. بقينا شغالين طول السنة والورد على طول مفتح.. ده غير إن سعر الورد ما بقاش مميز في الربيع على عكس عيد الأم وعيد الحب اللى يعتبروا حاليًا مواسم وبنطلع فيهم كميات كبيرة"، وعن بدايات دخول الصوب في عالم زراعة الورد في المزرعة يحكى أحمد "أول لما دخلت الصوب كانت تقريبًا في أوائل الألفينات.. في البداية كنا بنزرع القرنفل.. دلوقتى كل الزراعات بتعتمد بشكل كلى على الصوب اللى بتوفر النور والتدفئة والميه اللى بيحتاجها الورد عشان يطلع بجودة كويسة.. والصوب تعتبر نتيجة طبيعية للتطور". داخل الصوب.. كل الظروف مهيئة لنمو الورود طوال العام وكما أن الصوب قد غيرت موازين إنتاج الورود.. فإنها أيضًا قد بدلت الأسماء التي اعتدنا سماعها في الماضى.. فبدلًا من الداليا والقرنفل أصبح هناك الليليم.. البلاك ماجيك.. كما رفعت الصوب من شأن أنواع من الورود بينما ذهبت أنواع أخرى بسببها في أدراج الرياح.. وفى السنوات الأخيرة وحتى يومنا هذا يوجد نوع من أنواع الزهور المستوردة يحظى بمكانة الملك بين الزهور، وهى زهور "الكرازنتيم".. تستوردها مزرعة الحاج عبد الجواد من الخارج ليس فقط لجودتها العالية ولكن لأن هذا النوع من الورود "بيعيش" وألوانه كثيرة ومن الناحية الجمالية "لا يُعلى عليه". الكرازنتيم.. ملك الزهور الآن "النوع ده من الورد تم استيراده تقريبًا من نحو 10 سنين من بره مصر.. كيفناها مع جونا في مصر وبقينا بنزرعها وأنواع كتير منها بقت موجودة وبقيت هي الأساس دلوقتى وهى أكبر نسبة توزيع في المحلى والتصدير.. وبتعيش كتير.. يعني الورداية البلدي تقعد أربعة أيام.. لكن الكرازنتم ممكن تعيش لحد 15 و20 يومًا.. بس للأسف مع الوقت الجودة بتقل وبيبقي لازم عليا أرجع أستورد كمية قليلة تانى ونكيف الكمية دى على جونا من تاني عشان أحافظ على الجودة العالية في الورد". زراعة الزهور داخل الصوب أبيض.. أصفر.. بنفسجى.. أشكال وألوان من الكرازنتيم تزين الأرجاء.. هذه الزهرة التي تفوقت مصر بصفة عامة ومزرعة الحاج عبد الجواد بصفة خاصة في إنتاجها بأقل تكلفة في العالم.. وعن هذا يقول أحمد "بنطلع كميات كويسة من الكرازنتم.. وإنتاجيتنا من أعلى إنتاجيات في العالم لأن جونا ماشى معاها فشغالة". ألوان زهرة الكرازنتيم والكرازنتم المصرية لا تلقى فقط إقبالًا محليًا في العاصمة حيث توزع المزرعة ولكنها أيضًا هي الزهرة الأساسية في عملية التصدير للخارج، ويقول أحمد "إحنا بنسوق جوه مصر.. وفى حاجات بتتصدر للسعودية بالذات.. كنا زمان بنطلع للدول العربية كلها قبل الحروب.. لكن المملكة هي اللى بنصدر ليها حاليًا أكتر كميات وبعدها دبى والكويت.. وزهور التصدير لازم يبقي لها مواصفات محددة.. ما تبقاش فيها أي غلطة.. والكرازنتم إحنا اللى متميزين بيه حاليًا وبنحتاج فيه إن تفتيحة الزهور تكون من 50 – 70%.. وورقتها تكون نضيفة والزهراية تكون بلونها الطبيعي ومفيهاش أي إصابات.. ولازم يبقى في جودة محددة للعود عشان ينفع نصدر الوردة.. ولازم طوله ما يقلش عن 80 سم". إعداد الورد استعدادًا لتسويقه محليًا وعربيًا وإلى جانب الزهور فإن مزرعة الحاج عبد الجواد تحتضن أنواع مختلفة من "الخضرة" التي لا يمكن أن يكتمل "البوكيه" بدون أن "يُطعم" بها.. وعن أنواعها يشير أحمد في حدثيه: "الاسبرجس ده نبات معظم شغله أفراح.. بيستخدم مثًلا في الكوشة أو في بوكيه العروسة.. ونبات السالومى بيستخدم في البوكيه الهاند بيترص عليه الزهور.. وفى كمان نباتات الدراسينا والكولدارين بتستخدم برضه في تطعيم البوكيهات بكل أشكالها وبتديها جمال". جانب من "الخضرة" التي لا غنى عنها في أي "بوكيه" خلف هذا الجمال الذي يزين أرض المزرعة.. ووراء هذا الربيع الدائم.. عملية شاقة من الرعاية والاهتمام بالورود وتفاصيل زراعتها ونشأتها حتى تخرج في صورتها البهية.. وأطنان من بلاستيك الصوب بآلاف الجنيهات والتي قد تهلك مع أي عاصفة هوائية شديدة.. وأمراض فطرية قد تصيب إنتاج الورد.. ومبيدات حشرية غير مضمونة قد تودى بالإنتاجية.. وورد هالك لا يصلح للتسويق المحلي أو الدولى.. وأسعار متغيرة وفقًا للعرض والطلب.. أعمال شاقة حتى تصل "الورداية" في كامل بهائها وجمالها إلى محال الورود. وراء الربيع الدائم في "مملكة الورد".. عملية شاقة من الرعاية والاهتمام بالورود وتفاصيل زراعتها ونشأتها وبالرغم من التطور في إنتاج كميات الورود بفضل الصوب.. واتساع خريطة الزهور المنزرعة مقارنة بالماضى.. فإن عشاق الورد لذاته وجماله أصبحوا عملة نادرة كما يؤكد أحمد: "الشغل في المحال في وقتنا دلوقتى بقى شغل مناسبات.. فرح أو افتتاح أو عيد أم.. ونادرًا ما بشوف حد بقى بيشتري ورد عشان يحطه في الفازة ويزين بيه بيته زى زمان.. بس الناس عندها حق.. والقصة مش بس الحالة الاقتصادية لكن لأن معظم ورد الصوب من غير ريحة.. يعني منظر بس.. فالصناعي ممكن يقوم بدوره". الورد جميل.. ولكن بلا رائحة فالورد حاليًا أصبح فقط متعة العين.. والربيع أصبح حاضرًا طوال السنة بالفعل ولكن بدون روائحه، "الأول كان جونا كويس وما كانش في مبيدات حشرية.. دلوقتى.. المبيدات أثرت فى الورد لدرجة أنه بقى لون بس.. أنواع محددة وقليلة اللى بيبقالها ريحة.. لكن الكرازنتم اللى هو أصلًا أساس السوق حاليًا مالوش ريحة.. وفى المحال بقوا بيرشوا الورد بالمعطر بس مستحيل تدى ريحة ورد زمان". المبيدات الحشرية أثرت فى الورد وأفقدته أجمل خصاله يحلم أحمد أن نضاهى في إنتاجنا للورود كل من إثيوبيا وكينيا فكلاهما متفوقان على العالم كله في الورد وإنتاجه نظرًا لطبيعة جوهما.. وكذلك هولندا أشهر بلاد العالم في دنيا الورود والتي تبذل جهودًا لا تتوقف في الأبحاث الزراعية وكل ما يتعلق بتطوير عالم الزهور.. أما هو فيعمل قدر الإمكان وفقًا لإمكاناته وبجهود ذاتية للتطوير.. فيحاول بالاستعانة بأحد المتخصصين للوصول إلى إمكانية الاستفادة من الزهور بكل الطرق حتى الهالك منها.. "بحب شغل الورد ده وحابب إنى أطوره.. ونفسي نوصل لمرحلة الأجانب في البحث العلمى وتطوير الإنتاج". الورد وزراعته في مصر يحتاج إلى اهتمام وبحث ليواكب التطور في الخارج