لعنَ اللهُ كلَّ حنجوريٍّ يناضلُ بالصوتِ والشعاراتِ الجوفاءِ العابرةِ للقارات ... ولعنَ كلَّ جبان يجلسُ القرفصاءَ تحتَ سريرِهِ كنملةٍ مرتعشةٍ داهمها الجوعُ والبردُ في بياتِها الشتويِّ الممل ..، ولعنةُ اللهِ على كلِّ الصيّادينَ في العكرِ الذينَ يجيدونَ اقتناصَ الفرصِ وركوبَ المواقفِ وجنيَ الثمارِ التي روتها دماءُ الشبابِ وآهاتُ الأمهاتِ المكلوماتِ المتّشحاتِ بالسوادِ إلى آخرِ نفسٍ لهنَّ على صفحةِ الحياة ... وكلّ اللعناتِ، وما في مُعْجَمِ الاحتقارِ، لكلِّ الذينَ خرجوا من ظلماتِ الجُبنِ والارتعاشِ كصراصيرِ المزابلِ وفئرانِ السفنِ المنكوبةِ ليحتلّوا مقدّمةَ الصفوفِ بنيّاتهم السوداءِ ونفوسهم الممتلئةِ حقدًا وجوعًا وطمعًا وجحودًا ونُكرانا. أتلَفَّتُ حولي، فأتعثّرُ في ظلِّي، وتتلعثمُ الخطى وتتأرجحُ فوق رمالٍ متحرّكةٍ، ولا أجدُ في يدي ما أتوكّأُ عليهِ سوى ما يمطرنا به هؤلاءِ وأولئكَ من علاماتِ الاستفهامِ والتعجّب! جورج إسحق أبو الفضل جاد الله، ويكفي أن تقولَ: جورج إسحق، فالاسمُ نارٌ على علمٍ ( برغمِ كيدِ الكائدين )، والعلَمُ هو الجبلُ، وهو الراية، وجورج إسحق هما معًا، لكَ أن تشعرَ بالفخرِ والاطمئنانِ والأملِ لمجرّدِ أنَّ ببلدِكَ مثلَ هذا ال «جورج» المصريّ الشجاعِ النبيلِ المفعم بكلّ مصرَ بكلِّ أطيافِها، والذي لا يعرفُ تمييزًا ولا تصنيفًا، لم يمنعهُ كونُهُ مسيحيًّا أن يشيد بالإخوانِ المسلمينَ ويطالبَ بحقّهم في أن يعملوا في النور ( ولم يكن يدري أنهم إذا خرجوا إلى النورِ سييذلونَ كلّ ما في وسعهم من أجلِ إظلامِها في وجوهِ الجميع )، وهو لا يرى التمييزَ الذي كانَ يمارسُهُ المخلوع وشركاه موجّهًا ضدّ المسيحيينَ، ولكنه كانَ تمييزا ضدّ كلّ المصريين .. في النوبة .. في الصعيد .. في سيناء ... إلخ، وأنَّ الظلمَ كانَ (المساواة الوحيدة) بين المصريين!! جورج إسحق، المسيحيّ الكاثوليكيّ، لم يقفْ في وجهِ العاصفةِ من أجلِ حقوقِ المسيحيينَ ومطالبهم، ولم يخرجْ ليواجهَ التهديدَ والتنكيلَ والاعتقالَ إلا من أجلِ كلّ المصريين! وربّما شاءت إرادةُ اللهِ أن يولدَ هذا الرمزُ في بورسعيد، أرضِ الرجولةِ والتضحياتِ ومصنعِ الأبطالِ الذين أضاءوا بدمائهم وأرواحهم ليالينا الحالكاتِ السواد، من رحِمِها خرجَ جورج إسحق ثائرًا ومناضلا طفلا ضد الاحتلال، ثمّ يافعًا في مواجهةِ العدوانِ الثلاثي في 1956م، ولعلَّ دراسته للتاريخ قد أعطته أبعادًا أخرى وأضافت إلى تكوينِه الثائرِ نماذجَ كثيرةٍ من تاريخنا الملبّد بالبقع وبالخونةِ والمحتالينَ وسارقي مجد الآخرين، وفي الوقتِ نفسهِ وضعت عينيه على النماذج المحترمة التي لولاها ما دامت لنا مصرُ إلى اليوم، وكانَ جديرًا به أن ينحازَ إلى معسكرِ المصابيح ليكونَ واحدًا منها، وعندما يضيءُ المصباحُ فإنّه لا يختارُ زاويةً ما ويرفضُ ما عداها!! كانت أغلى ثمرة في مسيرة كفاحِ هذا المناضل هي تكوين الحركة المصرية من أجل التغيير «كفاية « في سبتمبر 2004م، وفي الهزيعِ الأخير من ذلكَ العام،كانت مظاهرة 12 ديسمبر 2004م بقيادة جورج وزملائه الأفذاذ، وجاءت المظاهرةُ بشعاراتٍ جديدة ومفردات جديدة، لتكونَ أوّل مسمارٍ في نعشِ حقبةِ الفسادِ والاستبدادِ التي بدأت مع حكم العسكرِ في الخمسينياتِ لتصلَ إلى ذروةِ الظلمِ والتعسفِ واللعبِ بالشعبِ ومقدّراتِهِ مع بداياتِ القرنِ الجديد، كانت «كفاية» كلمة كالرصاصة، منحوتة من أوجاع المصريين كافة، من بؤسهم ويأسهم وإحباطهم وقهرهم وفقدانهم الأمل في كلّ شيء، أطلقها جورج إسحق في لحظة كان فيها الحنجوريّونَ يمشون كالظلالِ خوفًا من أن يراهم المخبرون وعسس النظامِ من ذيولِ أمن الدولةِ وطحالبِ الإعلامِ الذين رهنوا أصواتهم وأقلامهم في بيوتِ الدعارةِ السياسيةِ من أجل تنويم الشعب وتخديره حتى يتعاطى حقنة التوريث دون أن يقول «آه»!! تحمّلها جورج إسحق وأبطاله، وأطلقوها انفجارًا مضيئًا في العلن وعلى رؤوس الأشهادِ لتكونَ ضوءًا في ملامح الزمن وليس في آخر النفق كما يقولُ المثلُ، فجورج إسحق لم يعشق العمل في الخفاء كالآخرين، لم يقبلْ أن يكونَ بوجهينِ أو عدّةِ أقنعة، وأبى أنْ يحملْ قلبينِ وضميرينِ ولسانين، كان دستوره كلمة الحقّ، وطموحه العدل والمساواة والكرامة لكلّ المصريين، وعندما مدّ يده لأهلِ العملِ في الخفاءِ من أن أجلِ أن يخرجوا معه ويعملوا في النور، وعدوه، ثم لحسوا الوعد وخذلوه، وعادوا إلى انكماشهم وظلامهم، وتركوه يتحدّى كلابَ السلطةِ ولاحسي أعتابها، لم ينشغلْ بكبرِ سنّه، بل جعلَ من أحلامه وقودًا يعيده شابا يصنع المعجزات، ولم يأبه بالتهديدات والتنكيلات والاعتقالات، وأصرّ على أن يواصلَ إلى النهايةِ معتبرًا نفسه شهيدًا مُحتملا منتظرًا شهادته في أية لحظة، كان الرجلُ يتحرّك مُحاطًا بأفذاذٍ لم يبخل عليهم نظامُ المخلوعِ بالتنكيل والتجريح والإهانة، ولكم في عبد الوهاب المسيري وعبد الحليم قنديل المثل والعبرة، غير أنهم خيّبوا أمل المخلوع، فلم ينكسروا ولم يتراجعوا، وأصبحوا نسيمًا جديدا يتنفسُه الحالمون بالحريّة، فكسروا الجمود والرتابة، وحرّكوا الدماءَ الساخنةَ في شرايينِ أيّامنا الساكنة، وأذابوا جليد اللامبالاة، وأحدثوا ثقوبًا واسعةً في جبالِ الخوفِ ليمرّ الوطنُ من خلالها إلى فجر الخامس والعشرين من يناير 2011، وكان جورج إسحق في مقدّمة الصفوف، وكان من علامات الثورة، في صموده وشموخه يجسّدُ أحلامَ الأجيالِ المقبلة، ويداوي عجز النائمين في سراديب الخوف والتردد والارتباك، وكلما أطلّ أرى في ملامحه توأمه (المسلم ) عبد الوهاب المسيري الذي كم تمنيتُ أن يكونَ بيننا في الحادي عشر من فبراير إيّاه. البطولةُ هي أن تبذلَ عمرَكَ في خدمةِ وطنك ومجتمعك بصدق وأمانة وشرف، لا أن تجلسَ متربّصًا في الخفاءِ مع مَنْ يجيدون المراوغةَ والتحايلَ حتى إذا حانت الفرصةُ التهموها وارتدوا ثوبَ البطولة!! لم يشفعْ كلّ هذا لجورج إسحق، بل راح الكثيرون يهاجمونه ويعيبونَ عليه مواقفه، متشددو الإسلام ومتشددو المسيحية الذينَ تؤرّقهم مواقفه وبطولاته، فيتصيّدون له زلات قلم أو لسان، وجميعهم مناضلون من منازلهم، يطلقونَ صرخاتهم من خلف ساتر فتذهبُ كالتثاؤبِ أو كبولِ سمكةٍ في قاع الأطلنطي، فلا يبقى من الرجالِ إلا الأعمال والمواقف، أما الزّبدُ فيذهبُ جُفاء، ولهذا، أستعيرُ صرخته وأطلقها في وجوه كلّ الذين لعبوا بنا وقاموا بتنويمنا وأضاعوا عامًا يقاسُ بمئات الأعوام من عمر بلدنا، أصرخُها بأعلى الصوت « كفاية حراااااام « في وجه المجلس العسكري، وجماعة الإخوان المسلمين، وأي إخوان مسيحيين يُبدون غيرَ ما يُضمرون، وفي وجه مجلس الشعب الذي نجح بامتياز في إثبات فشله، كما أطلقها عبر القمر الصناعي وأبصقها في وجوه داعري الإعلام الفاسد، إعلام التسطيح والتمييع والإثارة الجوفاء واللعب على كلّ الأحبال ... كما أطلقها حرةً طليقة لتصفعَ كلّ مَنْ يستحقّها ويرى نفسه جديرًا بها، هذا، خوفًا من الخطأ أو النسيان.