تحدث يومًا عن نفسه قائلًا "أنا الغياب.. أنا السماوي الطريد". طفولة مزقت وشُوهت ملامحها حين كانت قيد طور الاكتمال، ليكون آخر عهد بها سن السابعة، في إحدى ليالي صيف عام 1948 عندما استيقظ الصبي الفلسطيني الصغير على نداءات أمه المختلطة بأصوات طلقات نارية، عويل وصراخ، "استيقظ يا محمود لابد أن نسرع تجاه الغابة اليهود دخلوا البروة ويقتلون الصغير قبل الكبير"، ليُلقى بعدها في صفوف طالبي الخبز في وكالة "غوث" للاجئين، تتقاذفه الأيدي المتهافتة على قطعة خبز أو جوال طحين، وتلاحقه الألسنة بعبارة "لاجئ". "أن تكون لاجئًا في المنفى، خارج وطنك، هذا أمر يمكن تفهمه فستظل مهما طالت السنوات، تحيا على أمل العودة إلى منزلك، حتى لو أصبح كومة حجارة، أما أن تكون لاجئًا في وطنك، فهذا أمر لا يتقبله عقل ولا منطق، وأنا ذقت اللجوء بنوعيه، حتى تشربته وانعكس ذلك في قصائدي، خاصة قصيدة "جواز سفر"، لكني لم أفقد الأمل واختلقت لي جنسية بعد أن رفضت قوات الاحتلال منحنا الجنسية الفلسطينية ونحن مقيمين داخل بلدة دير الأسد الفلسطينية، فقلت حينها " كل قلوب الناس جنسيتي"، هكذا تحدث الشاعر محمود درويش لإحدى الصحف الإسرائيلية الشيوعية عن طفولته التي تشبعت أرجاؤها برائحة اللجوء، بداية من اللجوء في لبنان كان أخف وطأة عليه من اللجوء في وطنه فلسطين، يستيقظ كل يوم على شكوى أسرة لا تستطيع أن تعبر الأسلاك الشائكة لترى ماتبقى من منزل حمل الذكريات والهوية. حفيظة يمكنها أن تنسى لحظات الطفولة التي تخطر عادة على الذاكرة باهتة غير واضحة المعالم، إلا أن هذه اللحظة كان لها الفضل في تكوين تلك الروح الثورية الرافضة دائمًا للخضوع، تحلق في سماء الحرية دون قيود. عاونه جده على قراءة قصائد لشعراء العصر الجاهلي، وكبار شعراء مصر والمهجر، فكان يذهب إلى حيفا اسبوعيًا ليحضر له تلك القصائد، حتى تأثر في بداية كتاباته بمصطلحات من الشعر الجاهلي، ليصبح مع الوقت له أسلوبه الخاص، وتتوالى بعدها العروض لنشر قصائده في إحدى الصحف الفلسطينية، حاملة توقيع "الطفل الفلسطيني محمود درويش.. عشر سنوات.. مدرسة دير الأسد الابتدائية". بالشعر الحماسي والبطولي تتشكل عقلية الطفل "محمود درويش"، المتسامية دائمًا نحو سقف الاستقلال، ليقف الصبي ذو العشر سنوات في يوم احتفال القوات الصهيونية بإحتلالها الأراضي الفلسطينية، حين كانوا يطلقون عليه"عيد الاستقلال"، في ساحة مدرسة "دير الأسد الابتدائية"، يلقي قصيدة حماسية أثارت حفيظة الحاكم العسكري الصهيوني، ليستدعيه بعدها في مكتبه، ويشده من أذنه مهددًا إياه ألا يفعلها ثانية وإلا سيعتقلون والده. طفل فلسطيني يخاطب في قصيدته حديثة التكوين آخر يهودي، "كيف تحتفل وتلعب في الخضرة والزروع، في منزلك، وأنا بلا بيت ولا أرض ونصف عائلتي تحت التراب، ألا يمكننا أن نلعب سويًا!"، لتهتز أرجاء المدرسة الصغيرة تصفيقًا ومدحًا، وتعجبًا كيف لهذا الصغير أن يكتب مثل تلك الكلمات؟ يشب الطفل محمود درويش على أن الثورة حق، والحرية حق، والكلمة وقعها على نفس العدو كوقع سلاح رجال المقاومة بل أشد، فتجد دائمًا صدى للتحدي في قصائده منذ أول ديوان حرره تحت عنوان "عصافير بلا أجنحة" حين كان في التاسعة عشر من عمره. حتى آخر كلمة في آخر بيت شعري، قبل أن ينفجر الكوليسترول في جسده، بعد فشل عملية جراحية أجراها في الولاياتالمتحدة، لتتوقف على إثرها أعضاء الجسد كافة، ويبقى القلب وحده يأبى ألا يموت، يزوره الموت كل صباح فيتمسك أكثر بالحياة، فهو من قال "وكأنني مت قبل الآن.. أعرف تلك الرؤية"، ليعود للتمسك بالحياة مرة أخرى فيكمل "ربما مازلت حيًا في مكان ما، وأعرف ما أريد.. سأصير يومًا ما أريد". حتى أتى صباح التاسع من أغسطس عام 2008، وعلى أحد أسّرة المستشفى تصعد روح شاعر المنفى وتستسلم لقوة الموت التي لا تقهر، تاركًا خلفه عشرات الدواوين الشعرية، منها عاشق من فلسطين، وأحد عشر كوكبًا وأوراق الزيتون والجدارية، فضلًا عن النثرية كذاكرة النسيان وأثر الفراشة، وفي حضرة الغياب.