كان نائما مع جده في الصيف، فوق سطح منزلهم العتيق، حتى أفاق من غفلته وفؤجي بنفسه، يمضي في مسيرة شعب، يهرب من بين أشجار الزيتون، لايعلم إلي أين هم ذاهبون، كل ماكان يشغل الطفل ذو السبع سنوات، حصان جده الذي تركه وحيدًا؛ في ذلك التوقيت، ولدت القضية الفلسطينية، وولد معها شاعرها "محمود درويش". هكذا يفضل الدكتور عماد الطراونه -صاحب أبرز الرسائل العلمية، التي تناولت "درويش"- أن تكون رحلة اللجوء الدرامية/ المفصل الأساسي في حياة الشاعر، هي بداية حديثه مع "البديل". عشق "الطراونة" لشاعر فلسطين، جعله يعيش معه، بل ويتقمص طريقته في الحديث وإيماءاته وحركاته طوال 4 سنوات، وهي المده التي استغرقتها رسالة الدكتوراة التي جاءت بعنوان "محمود درويش..جدلية الخطاب الشعري وتجربة الحياة". أراد الباحث أن يكون حديثه معنا حكيًا، كاشفًا لنا جوانب مهمة في حياة "درويش"، حتى أنه لا يترك لنا فرصة طرح الأسئلة، فيجلس متقمصا طريقته في الحديث ويقول: "ولد محمود درويش مع القضية الفلسطينية، حيث جاء الي الحياة في 13 مارس 1941 وكانت النكبة عام 1948 ، وكأنه جاء مهيئا لها، وظلت هي رفيقته طوال حياته، حتي أنه كان يقول في أحاديث كثيرة، أنه تزوج من فلسطين، وأعتقد أن أهم مرحلة في حياته هي المرحلة الأولي التي بدأت منذ عام 1948 حتى 1970، ففي هذه المرحلة كانت الحادثة الأولي التي هيمنت علي شخصية الشاعر، وغيرت حياته إلى الأبد، وتمثلت في اقتلاعه من قريته "البروه"، عندما احتلتها قوات الهجانه وهدمت بيتهم، وفي ذلك المساء كتبت له حياة جديدة، حيث كان في السابعة، عندما انتقل مع أهله كلاجيء، وكانت رحلة اللجوء درامية تحتاج إلي سينما لتصويرها. ويتابع: بقي درويش طيلة رحلته الشعرية يتحدث عن هذه الرحلة، كيف هرب مع أهله الي شمال فلسطين وكيف قضوا ليلتهم عند إحدي العائلات البدوية، وبداية رحلة مأسوية أخري الي لبنان، وأنهم عندما أدركوا استحالة التحرير، قرروا العودة إلى بلادهم، ولكن لم يعد ل"البروه" وجود، حيث دمرتها القوات الصهيونية، فعاشوا في قرية دير الأسد. كانت الأسرة فقدت مصدر رزقها، فعمل والده حجارًا، وفي هذه الفترة كان محمود درويش يعيش حاله من الفقر والاغتراب، إلا أن جده، نجح في احتواءه، بل كان أول من ساهم في صقل موهبته، وقد تعلق درويش بحصان جده تعلقًا شديدا، حتى أنه كتب ديوان كامل بعنوان " لماذا تركت الحصان وحيدا؟" وقد ظل هذا السؤال الطفولي ملازما لدرويش طيلة حياته. ويتابع "الطراونه"، الحياة القاسية التي عاشتها الأسرة في تلك الفترة انعكست على علاقة درويش بوالدته، حيث كانت تميل للحزن وتأليف البكائيات، بل يذكر أنها لم تذهب إلى أي عرس أو فرح، يومًا ما، بل كانت تذهب إلى المآتم فقط، ولذلك كان درويش يراها أما قاسية، وهو الشعور الذي تحول بعد ذلك عندما سجن في إحدى السجون الإسرائيلية عام 1961 ، وزارته والدته حاملة الفواكه والقهوة فقام السجان الإسرائيلي بسكب إبريق القهوة على الأرض، ولم ينس درويش هذا المشهد فكتب قصيدته الشهيرة " أحن الي خبز أمي" على علبة سجائر. أحن الي خبز أمي/ وقهوة أمي/ ولمسة أمي/ وتكبر في الطفولة/يوما علي صدر أمي/ وأعشق عمري لأنيإذا مت/ أخجل من دمع أمي" ويضيف "الطراونه"، إن احساس درويش بالظلم والحق الفلسطيني المسلوب، جاء مبكرًا، خاصة أنه نشأ علي اللجوء والتهجير، ويدلل علي ذلك قائلا: "في الذكري العاشرة لقيام الكيان الصهيوني أمر الحاكم العسكري الإسرائيلي بالإحتفال بهذا اليوم، فاحتفلت مدرسة دير الأسد التي كان يدرس بها درويش، وكان في الثانية عشر من عمره، وفي أثناء الحفل قام بإلقاء قصيدة يقول فيها " أخي العبري ، أنت لك بيت ، وأنا لست لي بيت، أنت لك عيد ، وأنا لست لي عيد ، فاستشاط الحاكم العسكري غضبًا، وعنفه وضربه وهدده بطرد والده من العمل، إذا قام بكتابة قصائد ضد الصهاينة مره أخري، وفي أحد الحوارات الصحفية، يذكر "درويش"، أن مدير المدرسة قال للحاكم العسكري، أن هذا الطفل ليس من أبناء فلسطين، وليس لديه وثائق تثبت أنه فلسطيني، وهنا وضعت أول نقطة سوداء في قلب الفتي وصارت قضيته هي الأرض، ويوضح الطراونه أنه في أثناء التهجير وعندما كان هو وأسرته خارج الأراضي الفلسطينية، حصل إحصاء سكاني ولم يكن درويش موجودًا، ومن ثم لم يكن لديه أية وثائق تثبت هويته وهو الأمر الذي خلق عقدة لدي محمود درويش لازمته طوال حياته ، حتي أنه عبر عنها في قصيدته سجل أنا عربي". ويذكر "الطراونه"، أن درويش كان موهوبا في الرسم ولكنه لم ينم هذه الموهبه لأن أهله الفقراء كان يتعذر عليهم أن يأتوا له بالألوان والأوراق ويضيف: "عاش حياة قاسية، لدرجة أنه كان يتعذر عليه شراء الدواوين الشعرية لنزار قباني، فكان يأخذها من أصدقائه ويظل طوال الليل ينسخها حتي يعطيها لهم في اليوم التالي". من بين هذه المعاناة الشديدة، والحياة المأسوية برزت أسطورة درويش، حيث كان ولا يزال شاعر المقاومة بلا منازع، فكان الناطق الرسمي باسم القضية الفلسطينية استطاع أن يلمس جراحها برفق شديد ويعبر عن آلام وأحلام الشعب الفلسطيني الذي عاني ويلات الحروب. وعن دور الشاعر في دعم القضية الفلسطينية، يقول الطراونه" عاش درويش ينزف في كل لحظة من دمه وأعصابه وعروقه في سبيل قضية آمن بها ووهبها عمره، استمدت قصيدته دماءها من قلب القضية الفلسطينية فهو من جمع تاريخ وجغرافية أمته في كفيه وعصرهما فأخرج أشعارا خلدت اسمه.. ويتابع: عكف درويش على أن يؤرخ للقضية الفلسطينية منذ دواوينه الأولي، وظل طوال حياته ملتصقا بها، فكان يعرف بفلسطين وفلسطين تعرف به ، وأريد أن أذكر هنا دوره في دعم الإنتفاضة الأولى، حيث كان في باريس وقتها، ثم شاهد عظام طفل ملقاه علي الأرض، فظل يبكي ولم يتمالك أعصابه وكتب قصيدته الشهيرة عابرون في كلام عابر، وعندما نشرت، أحدثت ضجه كبري داخل الكنيست الإسرائيلي، حتى أن أحد أعضاء الكنيست قال "انظروا إلى هذا الشاعر، إنه يريد أن نأخذ موتانا ونرحل"، ونتيجة لذلك قام أعضاء اللوبي اليهودي في باريس برفع قضية عليه، وعندما شعر أنه مهدد جاء الي معشوقته القاهرة. أخبار مصر- البديل