العبث يقابله عبث وطالما فرضنا تأشيرة دخول على الإخوة السودانيين فإن من حقهم أن يفرضوا علينا تأشيرة بمبدأ المعاملة بالمثل غير أننى ومن واقع ترابط النسيج المصرى السودانى أرى أن تدهور الأمور بيننا وبين شطرنا الثانى من شأنه أن يزيد الأمور تعقيدا حيث حدودنا الملتهبة مع غزة والمشتعلة مع ليبيا والمضطربة مع السودان كل ذلك يمثل أعباء مذهلة على فكرة الأمن القومى المصرى. فالقراران شاذان وغريبان ومدهشان لأن لدينا عددا من القوانين لا يزال يتحدث عن وادى النيل باعتباره دولة واحدة ووفق الرؤية الشعبية بعيدا عن حكام يتخاصمون في اليوم الواحد خمس مرات بعدد الصلوات لا نزال نرى أن السودان مصرى وأن مصر سودانية وأن الوادى الرحب أوسع من قرارات السلطات وأن القرار المصرى أدى إلى القرار السودانى فتلك حقوق لا تقربوها إذا أردتم التعامل وفق المنطق السليم. ليست المشكلة فيما اتخذه الرئيس السودانى ونظامه هناك أو ما اتخذته مصر هنا وإنما المشكلة الحقيقية أن ذلك قد يدعو محافظ القاهرة مثلا إلى فرض تأشيرات لدخول «المصريين» للقاهرة اتباعا لنهج الأخ عمر البشير وقد يتخذ محافظ الخرطوم قرارا بمنع دخول السودانيين بدون تأشيرة ليعتبرا نفسيهما دولا داخل دولتيهما كما فعل النظام السودانى هناك والنظام المصرى هنا ففى الوقت الذي كانت فيه الصراعات بين نظامى القاهرةوالخرطوم متأججة إلى حد التشفى ووصلت إلى محاولات النيل من البلدين كان الأشقاء السودانيون ينعمون بحياة هادئة في شوارع وحوارى القاهرة وكان المصريون ينعمون بنفس المزايا هناك في شوارع الخرطوم. وفى الوقت الذي كان صوت الخلاف بين الرئيسين مبارك وعمر البشير قد وصل إلى حد التطاول كان المصريون والسودانيون يردون على هذه التخاريف بحياة هادئة وتعاون صادق وامتزاج لم تستطع كل آلات الحرب الدائرة بين رجلين اعتليا السلطة هنا وهناك أن تحول بينهما.. كانت القاهرة ولا تزال وستستمر واحة دافئة لأبنائها من السودانيين وستظل الخرطوم غير رافضة لأبنائها من المصريين. إن العلاقات الشعبية لا تحكمها تأشيرة يستيقظ حاكم من نومه ليفرضها ولا يمكن للبشير ولا لغيره أن يغير من حقائق التاريخ والامتزاج الإنسانى عبر قرون أقدم منه ومن نظامه ولا يمكن لحكام القاهرة أن يحولوا دون التماهى المصرى السودانى مهما اختلفت الرؤى وتباينت المصالح فمصر والسودان حالة فريدة بعيدان عن الرياء السياسي أو الشقاق السلطوى المزعوم أو الرؤية المحدودة والناقصة لدى طرف من الأطراف. يصل الخلاف إلى الشعوب في الحالة المصرية السعودية وأيضا يصل إلى نفس المستوى في الحالة المصرية القطرية.. في كل العلاقات العربية المتخلفة تصل شظايا الخلافات إلى الشعوب إلا السودان ومصر فهى الحالة العصية التي لم نر ولن نرى فيها خلافا شعبيا لأننا أمام شعب واحد ومصير واحد وحالة امتزاج تاريخية أكبر من المراهقة السياسية التي يمارسها طرف من الأطراف. تستطيع أن تتجول في العتبة.. في المهندسين.. في الدقى.. تستطيع أن تتجول في المطاعم والمتاجر.. تستطيع أن تزور المستشفيات والمدارس والجامعات لترى بنفسك كيف يعيش هذا الشعب العبقرى واحدة من حالات التلاقى الإنسانى بعيدا عن تأشيرات السلطتين ويكفى أن نذكر الجميع ومن بينهم الرئيس عمر البشير نفسه كيف كان يعيش بيننا أكثر من ثلاثة ملايين سودانى عندما كانت القاهرةوالخرطوم على مسافات أبعد من القاهرة وتل أبيب. إن المتابع غير العربى للشأن العربى يستطيع أن يرى وبوضوح كيف كان يعيش الإنسان الحجرى عندما يطالع خلافات الحكام العرب.. يستطيع أن يحكم وبإنصاف علينا بأننا أمة أصابها خرف السلطة ومرض العظمة رغم أننا لا نزال نسبح في «قيعان» التخلف والجهل والجمود.. يستطيع أن يصفنا دون ظلم بأن ربط جذور الإنسان بالقرد فيه ظلم لعالم القرود ويستطيع وبضمير مستريح أن يقول هنا أمة لا بد وأن تتكالب عليها الأمم لأنهم كغثاء السيل!!