مهنة بدأت منذ آلاف السنين لتأخذ مكانتها في تغيير حياة البشرية من الأبيض إلى الألوان، حيث تعود هذه الصناعة إلى الأسرة الأولى الفرعونية أي قبل 3100 عام من ميلاد المسيح، لتغير ما استقر عليه العالم من لون واحد إلى وجود العديد من الألوان المبهجة التي أحدثت طفرة في عصرها ليصبح للعالم مذاق جميل بالألوان تتزين به. ففي قلب القاهرة الفاطمية، وفي حي أصلان بالدرب الأحمر، وهو من أقدم الأحياء التاريخية، تقع أقدم مصبغة لصباغة الخيوط عرفتها مصر، بجوار مسجد أصلم السلحدار، والمعروف باسم مسجد "أصلان"، فلقد واجهت العديد من الأزمات السياسية والاقتصادية وتأثرت بها، إلا أنها برغم تاريخها العريق استطاعت أن تستقر في مكانها لأنها مصبغة بلدي وتعتمد على الأيدي العاملة، ناهيك عن الآلات العتيقة المستخدمة بها، وتتسم بالمرونة وهذا يؤهلها بأن تصمد في وجه أي شيء. عرفت باسم مصبغة "عم سلامة "، أو الحاج سلامة، وهو رجل في بداية الثمانينيات من عمره، ولا يجيد القراءة ولا الكتابة، ولكنه يجيد فن التعامل مع الآخرين، وبالرغم من كبر سنه إلا أنه لا يزال يتمتع بصحة جيدة، ويقابل الجميع بابتسامته العريضة التي تسر كل القادمين إليه. عم سلامة "... هو من مواليد عام 1937، ويبلغ من العمر "80 عامًا"، فلقد عمل منذ طفولته في مهن كثيرة، إلا أنه يرى منذ طفولته الحياة بالألوان، ودفعه حبه للألوان أن يبحث عن عمل يشبع شغفه، مضيفًا، "أنا ولدت في أسرة ميسورة الحال في محافظة القليوبية، وانتقلت عام 1950 للعيش في حي الجمالية بالقاهرة، وبدأت العمل في المصبغة عام 1955 ولم أزل فيه إلى الآن". وأوضح "عم سلامة"، أن أبناءه يعملون معه فيها ولديه 11 ابنًا، أربعة صبيان وثماني بنات، وكلهم متزوجون ولديه أحفاد متزوجون أيضًا، وقال "عم سلامة": إن هذه المصبغة البلدية هي الوحيدة في مصر، فهي موجودة منذ عام 1901، وموجودة منذ عصر الخديوي عباس حلمي الثاني، وعمرها 116 عامًا. عاصر "عم سلامة"، حكامًا كثيرين لمصر، من الملك فاروق وحتى الرئيس السيسي، غير أن أسلوبه في العمل لم يتبدل، حتى إنه أورث للعاملين معه هذا الأسلوب، حيث يتنقل معه اثنان وهم ابنه وزوج ابنته في المكان فيعملون بأيديهم على مدى الأيام والساعات تبدأ مع ضوء الشمس المشرقة وتنتهي قبل المغيب مع الجد والعمل والعرق وكثرة التعب، ويعتمدون في هذا العمل على آلات عتيقة قضى عليها الزمن في صبغة الخيوط، فيقومون بتلبية طلبات الزبون الذي يصف لهم ما يريده في القماش من تخفيف درجة اللون أو جعلها قاتمة، حيث إن المصبغة كانت تعمل بالغاز والسولار وبسبب ارتفاع الأسعار تم استبداله بالخشب، هذا لأنه لن يستطيع تحمل ارتفاع الغاز والسولار، وأيضًا الزبون لن يتحمل. يكون نظام العمل في هذه المصبغة منذ بزوغ شمس الصباح باستقبال "عم سلامة" للزبائن بوجه بشوش وملامح لازالت تعاند الزمن رغم آثاره الواضحة عليها، عن حياته في النسيج اليدوي، ما جعله يحب مهنة الصباغة اليدوية التي ترتبط بالنسيج اليدوي، وبعد نظرة تأملية للمكان، تنهد عم سلامة ثم أخبرنا بأن هذه المصبغة يزيد عمرها عن مائة عام، ففي مطلع القرن العشرين لجأت مصبغة "عم سلامة" بالدرب الأحمر لحرق الأخشاب بعد ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي، حيث ينقل العاملون فيها على أكتافهم خيوط القماش البيضاء ويغمرونها بالصبغة في المياه، ثم ينفضونها قليلًا، ليتخللها اللون المطلوب، ثم يقومون بإدالها إلى إحدى الآلات لتجفيفها، فلا تستغرق إلا دقائق لتصل للشكل الأخير بسطح البناية، إذ يعلقها أحدهم كي تصبح جاهزة للاستخدام، وتصبح الخيوط لامعة وتباع في النهاية بالكيلو، ولا يكل "عم سلامة" مما يفعل يوميا.