عزيزي ورفيق صباي حسين.. أكتب لك اليوم خطابا بخط اليد، فقد انقطع الاتصال بالإنترنت منذ صباح الأمس، فوجدت أنه لا مفر من الكتابة لك لأمر جلل، خاصة أنني علمت أن حمدي ابن عمك سيسافر لك الأسبوع القادم فأوصيته أن يسلمك الخطاب يدا بيد، أحسب أنك ستسبني بعد أن يصلك خطابي وتقع عيناك على أولى عباراته، قائلًا "أي عظمة فيما تهذي يا فارغ!"، ولكن لا بأس سأكتب لك وستقرأ من منفاك الاختياري. آنستك بخير فأنت قد ذهبت هناك خصيصًا لجلب الخير ألست أنت من كان يخبرني دومًا بأن الخير نأتيه ولا يأتينا ؟! دعك الآن من هذه المقدمة المملة الرتيبة كخطابات الرؤساء. رفيق رحلتي المؤقتة من القاهرة للإسكندرية، صعدت روحه إلى السماء صباح الأمس، انظر! يوم وفاته يوافق نفس يوم لقائي الأول به، ولكن يفصل هذا اليوم عن ذاك شهر، شهر واحد يا حسين، لكنه بالنسبة لي عمرًا كاملًا بطفولته وشبابه ومشيبه، هل سمعت عن هؤلاء الذين يتسللون بين ثنايا حياتنا فجأة ودون أن نشعر فيحدثون بداخلنا هزة مدوية الصدى التي تقلبنا رأسًا على عقب، فلا نعلم من أي أرض انبثقوا ولماذا. كان آذان الظهر يٌرفع من المسجد المجاور لمحطة القطار برمسيس، فذهبت لألحق بصلاة الجماعة قبل أن يدق جرس القطار وتعلن حقائبي استعدادها. عندما انتهينا من الصلاة وجدته بجواري يغمغم بعبارات لم أفهم منها سوى "لتشهد آثاري آخر عهد بالمد" !!. أستحلفك بالله أن تخبرني في رسالتك القادمة، لو كنت مكاني وسمعت عجوزا سبعينيا خطّ المشيب رأسه وبات كل شئ حوله وبه رمادي بفضل أحكام طوق الكهولة برقبته، ماذا ستقول عنه، مجنون، فيلسوف، أم مصاب بالهذيان؟! تتبعته منذ خروجنا من المسجد حتى وصلنا القطار، فكانت جلستي بالكرسي المجاور له، ويالها من صدفة تمنيتها طوال الطريق إلى المحطة. كان يحمل بين راحتيه كُتيبا صغيرا أحمر أشبه بكتب المكتبة الشيوعية التي كنا نتردد عليها أيام الجامعة، لكنني عرفت بعد ذلك أنه ديوان شعري مترجم لشاعر إنجليزي من أصل أوكراني. دارت عجلات القطار ودار معها عقلي الذي تناثرت به قطع الأفكار الزجاجية وباتت تمزق أوصاله تمزيقًا، من هذا الرجل، ولِم يحملق في وجههي هكذا، أيعرفني، وما معنى العبارة التي رددها عقب انتهائه من الصلاة! أسئلة كثيرة يا صديقي عبثت برأسي وتكالبت عليه. شرع في قراءة الديوان بعين وبالأخرى يتفحصني أنا أنهر السائل الذي صعد معنا القطار ليحصل قوت يومه من "الغافلين"، أنت بالطبع تعلم موقفي "الكانطي" من مساعدة متسول، رغبةً في عدد لا بأس به من الدعوات والتقبيل والتهليل، وعندما رآني العجوز أفعل ذلك ألقى الكتيب جانبًا وصفعني على وجهي صفعة دوى صفيرها في أذني، حتى أن معظم الركاب وبتصرف لا إرادي وضعوا سويًا أيديهم على وجنتيهم مذهولين،أما أنا لم أدرك ماذا حدث إلا وهو يجلس ثانيةً ويستأنف قراءته وكأن شيئًا لم يكن. أخذ مذاق الماء يعبق بفمي، كا يشبه كثيرًا الخمر الذي اسقيتني إياه عنوةً، عندما كنا في الإسماعيلية منذ سنة، انهمرت الدموع على وجنتيّ ولم استطع كبحها كنت ابكي دون صوت، وما أثقل بكاؤك دون صوت تشعر قفصك الصدري أوشك أن تفتك به التصدعات. حين خلُص القطار من استراحته وبدء في المسيرة مجددًا كنت مازلت اترقب نظراته لي، فإذا به يُخرج من جيب بنطاله الأسود الخشن بضع وريقات صغيرة في حجم كف اليد ووزعها علينا كل حسب دوره، وعندما أخذت وريقتي فوجئت أن ما بها هي نفس العبارات التي كان يرددها عقب الصلاة بالمسجد " لنتشهد آثاري آخر عهد بالمد"، أخذ طنين العبارة يدوي بأذني رغم أنني قرأتها بعيني فقط!. انشغلت بالعبارة لحد كبير لدرجة ااني لم أقم كعادتي استعلم عن تفاصيل أحد هرولة أحد أفراد الأمن بين العربات بحثًا عن قاتل شابة بعربة مجاورة، جُل اهتمامي انصب في البحث وراء عبارة العجوز، التي لازمني طنينها طوال الرحلة وخلال الثلاثة أيام التي قضيتها بالإسكندرية، تستوطن رأسي وجيب قميصي الرمادي، وفي يومي الثاني بالإسكندرية ذهبت إلى المكتبة لاستعار بعض الكتب الخاصة بدراستي حول "ناموس المسيحية في وجودية هيدجر"، حمدت الله أنني تمكنت من إيجاد كافة الكتب التي احتاجها وخرجت من المبنى في قمة نشوتي. ثم عدت إلى المنزل لتغيير ملابسي استعدادا لحفلة الوداع التي إقامةا رلي رفاقي بأحد المطاعم، تركت الكتب فوق المنضدة ذات الثلاث أرجل الملتصقة بالجدار وبجوارها القميص، عندما انتهيت من الحقل ولرجعت إلى المنزل المستأجر، لم أجد المنضدة ولا الكتب ولا القميص واوريقات بجيبه، فقط وجدت كومات رماد وآثار حريق في كل ركن بالغرفة، وسمعت صوتًا يلهث من أسفل -ياسيدي نشب حريق اليوم بغرفتك أنت فقط لا يعلم سببه إلا الله وحده، وحاولنا اخماده قدر المستطاع. فشكرته دون أن ألتفت إليه ومازالت عيني مثبتة على على جيب القميص المحترق، فأخرجت منه ورقة العجوز، أو ما تبقى منها، فلم أجد إلا "آخر عهد" وبقية الوريقة أكلتها النيران التي لا يعلم من أين شبّت ولم بغرفتي أنا، وما هو منتهى العهد الذي قاوم النيران وحده وتحدى القوانين والظروف البيئية وبقي دون احتراق!! تعلم ياصديقي، بعد أن مر شهر على هذا الحدث، لم أعد انشغل فيما كان يقصد به العجوز من عبارته، فقط اكتفيت واستكفيت بالإنسان الجديد الذي نبت فجأة براسي، تحررت روحي من جمود النظريات والتعقيدات، تخلّصت من الشكوك التي كانت تعربد بصدري كل ليلة ومن أسئلتي التي سئمت صداها الذي لا يسمعه إلا أنا.