أبهر العالم حينما خرج في 52 يناير، يرفض الظلم والطغيان ليصنع ثورةً بيضاء تحاكى بها العالم ولايزال، ثم أذهل نفس «العالم» في استفتاء التعديلات الدستورية مارس من العام الماضي، لكنه لم يكتفِ بذلك وأراد إصابة متابعيه عبر الكرة الأرضية ب «السكتة القلبية»، فكان اختيار الانتخابات الرئاسية. إنه الشعب صاحب الكلمة العليا في صناعة الأحداث على مر التاريخ، فهو من يصنع الديكتاتور ثم يصرخ ألماً ورفضاً للظلم والاستبداد، رغم أنه أول من ساعد ودعم الحاكم لتأسيس أركانه. فى مصر الفرعونية كان الملوك يمارسون أسوأ أنواع التسلط فى الحكم بادعاء الألوهية وبعد عصر الفراعنة، عاش المصريون فى ظل الحكم الروماني، مروراً بعصر البطالمة، حيث كان الإمبراطور ممثلا للإله فاستمرت العلاقة بين الحاكم والمحكومين، على اعتبار أنها علاقة بين إله وعبيد. وفى القرآن الكريم ورد ذكر فرعون، كلقب يطلق على الحاكم المستبد، والذى يدعى «الربوبية» كما فى قوله تعالى على لسان فرعون: «فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى»، فالحاكم المستبد يبدأ حكمه بإدعاء أن كل البلد ملكه الشخصي ويتصرف وفقاً لذلك، ثم ينتقل إلى التصرف على أساس أن الناس ملكه أيضاً. فى زمن الفاطميين والمماليك والعثمانيين، تعرض المصريون للتسلط باسم الدين حيث كان الخليفة يعتبر نفسه «ظل الله» فى الأرض، وترسخت جذور التسلط فى الشخصية المصرية، عندما خضع الناس لحكم المماليك، القائم على القهر والفساد، ما نتج عنه خوفهم من السلطة، والذى ساهم فى قبولهم لجميع أنواع التسلط فيما بعد. وكان المماليك فى البداية عسكر الوالى وجند السلطان ثم أصبحوا السلاطين والحكام، وترسخ وجودهم فى نسيج المجتمع، وأصبح تراثهم أحد المكونات الأساسية له، فأصيبت الشخصية المصرية بالسلبية السياسية، بعدما تعرضت للقهر والتسلط، منذ حكم الفراعنة والرومان، والخلفاء ما بعد الراشدين مرورا بسلاطين المماليك والعثمانيين، وانتهاء برؤساء الجمهوريات. الأقلية تدعم الديكتاتورية يسعى النظام الديكتاتوري لوجود حالة من الفتنة الطائفية تسمح له بالسيطرة على الشعب، فالأقلية تدعم الحاكم الديكتاتور لأن نظامه متسلط على الأقلية والأغلبية معا، والمشترك بين الأغلبيات السابقة أن خطابها الدينى هو ما يثير القلق فى نفوس الأقليات ويدفعها للتمسك بالحاكم الديكتاتور خوفا من تيارات إسلامية متطرفة، انتهج بعضها خطابا متشددا وصل إلى تكفير الطوائف الأخرى. ويقع اللوم على تلك الأغلبيات التى لم تقدم خطابا مطمئناً وواضحاً، يؤكد أن التحرر من الحاكم الديكتاتور إنما يهدف إلى إقامة الدولة الديمقراطية التى تقوم على أساس المواطنة دون تمييز دينى أو طائفى. الشعب أم الديكتاتور؟ الديكتاتورية والتسلط لهما جذور عميقة داخل مجتمعاتنا، ولفظ «سلط» فى اللغة يعنى إطلاق السلطة، وورد هذا اللفظ مرة واحدة فى القرآن الكريم فى قوله تعالى «وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ»، كما ورد لفظ يسلط مرة واحدة أيضاً، فى قوله تعالى «وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ». والتسلط اجتماعيا يعنى فرض رأي أو موقف أو فكرة بالقوة، سواء أكانت هذه القوة مادية أو معنوية، وقد يكون التسلط موجها من الكبار إلى الصغار أو من الكبار إلى الكبار أو من الصغار إلى الصغار أو من جنس نحو الجنس الآخر. أما عن تدعيم ديكتاتورية الحاكم من خلال الفكر الدينى، فيتم من خلال تحجج البعض بأن طاعة الحاكم وإن كان مستبداً واجبة لأنها من طاعة أولى الأمر، لكن الله تعالى لا يأمر بطاعة الظالمين، ونقرأ قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِى شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً». وفى الآية السابقة جعل الله تعالى مرجعية الحكم فى التنازع بين المؤمنين وأولى الأمر إلى الله تعالى، وإلى الرسول «صلى الله عليه وسلم»، ولم يدخل أولى الأمر فى تلك المرجعية. ونلاحظ أن الأمر وهو مفرد الأمور له معانى متعددة فى القرآن، فالأمور تشمل كل نواحى الحياة وبالتالى فإن أولى الأمر هم أصحاب التخصص فى علوم الحياة المختلفة، بما فيها من سيقومون بإدارة حكم البلاد، كما أن مفهوم أولى الأمر بالمعنى الشائع، لا يصح، حيث يأمر الله تعالى بطاعة أولى الأمر طاعة عمياء ثم يفرض أمراً آخر «وَشَاوِرْهُمْ فِى الْأَمْر»، ما يتطلب التشاور وإظهار الآراء المختلفة، والاتفاق على الرأى الغالب وجعل المرجعية الأعلى هى القرآن الكريم. طريق الديكتاتور المستبد يصنع شعبه بنشر التعصب بين فئات الشعب دينياً ومذهبياً حتى ينشغلوا بالصراع فيما بينهم، ويستعين كل منهم على الآخر به، ومن وسائل التسلط مبدأ فرق تسد، كما ورد فى قوله تعالى «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِى الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا»، وأيضا زيادة الفساد فى الأرض كما فى قوله تعالى «وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِى الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ». وينتقل الحاكم المتسلط من تكذيب المصلحين إلى البطش، كما فى قوله تعالى «فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلالٍ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّى أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الأَرْضِ الْفَسَادَ». والديكتاتور يصنع شعبه عبر سيطرته على الإعلام، التعليم،الحياة الدينية، حجب المعلومات، اضطهاد المفكرين الأحرار، ومطاردة المبدعين، فهو حاقد على كل عالم وكل مفكر ومبدع، لأن لديهم احتراما للذات بسبب تفوقهم وتميزهم، ولا وقت لديهم للتقرب منه، لذلك يستريح الديكتاتور لأهل الثقة من الفاشلين فى العلم والخبرة، والذين حصلوا بالتزوير والغش، على شهادات لا يعرفون عنها شيئاً، ووظائف لا يصلحون لها. فى ظل الحكم الديكتاتورى، يصبح على سبيل المثال، أى موظف مسئولا عن مخازن أو خزينة بها عهدة بالملايين، بينما راتبه لا يتعدى الملاليم، أى أن الحكومة تسمح له ضمنيا بالاختلاس، ما أدى إلى كوارث فى مواسم الجرد، فعندما يأتى وقت التفتيش على المخازن، يشب فيها حريق، ثم يقال إن سببه ماس كهربائى، مع أنها حرائق متعمدة، للتغطية على السرقة. وحديثاً، تطورت الأمور، وظهرت الخصخصة، التى تعنى أن تخسر شركة القطاع العام الناجحة، أو يتم تدمير جزئى للمصنع المنتج، من خلال عدم صيانة الماكينات، أو عدم تجديدها، لتأهيل المصنع للبيع، بأبخس الأثمان، ويستفيد من هم وراء الخصخصة بعمولات بيعه والتى تفوق ثمنه، هنا تتحول السرقة العادية الى حرق وتدمير أصول يملكها المجتمع وتعيش عليها آلاف العائلات. ينجح الديكتاتور فى تحويل السرقات المتفرقة إلى فساد عام يعتاده الناس مع الوقت، ولأن الديكتاتور يصنع شعبه فإن الشعب يدمن التعود على القهر، ولأن العلاقة بين الشعب والحاكم تبادلية، فإن كلاهما يؤثر في الآخر. إذا كان الحاكم عادلاً ستتحسن أخلاقيات المجتمع ولو كان ظالماً فستفسد أخلاقيات المجتمع، ولا يحدث ذلك إلا فى النظم التى تقوم على فكرة الحاكم الفرد وترفض نظام المؤسسات، بينما النظم التى تقوم على الأخيرة يكون الحاكم فيها موظفاً يؤدى مهام محددة لدى الدولة، والتى تتكون من مجموعة مؤسسات تدير شئون الدولة وتراقب هذه المؤسسات بعضها بعضاً. وفى النظم التى تتركز كل سلطاتها بيد الحاكم تصبح المؤسسات أداة لتحقيق أهدافه وأهداف بطانته، ولا مكان فيها لتحقيق أهداف الشعب وطموحاته، لذلك نجد الديكتاتور الفاسد يريد شعباً فاسداً حتى يعطيه المبرر لممارسة التسلط عليه، فمن رضى بالفساد وعاش من خلاله وأصبح جزءا من منظومة الفساد، فإنه لا يشعر بالحاجة إلى التغيير، لأنه سيخسر مكاسبه التى اعتادها اذا انتهى الفساد. ويعتمد انتشار الفساد على غياب الشفافية وتزايد جرائم الرشوة واستغلال النفوذ وإهدار المال العام، فى ظل غياب الرقابة والمحاسبة، وانعدام الوازع الديني، وتردي الوضع الاقتصادي وغيرها من المظاهر السلبية التى تم تدعيمها فى المجتمع، حتى صار الناس أكثر استعدادا لتقبل الفساد القائم بدلا من محاربته نتيجة لوجود خلل فى منظومة القيم الاجتماعية والثقافية.