من رئيس الوردية في المصنع الي رئيس القسم ومديري العموم.. من شيخ الخفر الي العمدة الي شيخ الطريقة والجامع والحارة والمنصر وصولا الي رأس الدولة رئيس الجمهورية. يبدو كل من هؤلاء حاكما بأمره, لا صوت يعلو فوق صوته, وحوله شلة من أهل الطبلة وكذابي الزفة يخطب أحدهم وده, ويسبح آخر بحمد فضائله, ويتفاني ثالث في أرضائه واقصاء من يعكر صفو مزاجه السلطاني, ويستبق الجميع من أفراد الحاشية الي التعظيم والتبجيل في شخص الرئيس المدير الشيخ حتي تطول أنيابه ويصاب بداء الديكتاتورية ويصبح مشغولا في موقعه فقط برجاله المقربين بينما يذيق سوط عذابه من لايحني له الرأس ولا يقبل يديه الشريفتين. صناعة الديكتاتور والمتسلط, لكل ما سبق, صناعة محلية و(Handmade) أفرزت فرعونا في كل إدارة وهيئة ومؤسسة بالدولة, وضربت تلك الثقافة بجذورها في أعماق المجتمع المصري. وغدت مهنة صناعة الديكتاتور وعجنه وخبزه,و بأصول وآداب وطقوس تبدأ منذ إعتلاء الكرسي بتقديم القرابين وشراء الخضار والفاكهة ومستلزمات أسرة الديكتاتور والوشاية والتحذير من المؤامرات التي تحاك ضده من مرءوسيه الأوباش وفي خضم السباق الي الفوز بتذكرة درجة أولي عند الرئيس, يبقي محظوظا ودعت له أمه في جوف الليل وهي حاسرة الرأس, من قربه اليه رئيسه وجعله مستودعا لأسراره. الدكتور محمد سكران أستاذ أصول التربية بجامعة الفيوم ورئيس رابطة التربية الحديثة, يؤكد أننا نصنع الديكتاتور منذ نعومة أظافره, بسبب ثقافتنا التي تعمق لدي الشخص ثقافة الفرعنة, فهناك من الأمثلة الشعبية ما يحفز علي ذلك وينفر المواطن من المقاومة الذاتية لأي شئ لا يتوافق معه أو يلحق به ضررا ما, فنسمع كثيرا ابعد عن الشر وغنيله والبلد اللي تعبد العجل حش وارميله, فهذا التراث الشعبي بقدر ما يحمل من ايجابيات إلا أنه ينطوي كذلك علي العديد من السلبيات الثقافية الموروثة والمتوارثة. ويضيف: الأخطر من ذلك, أن ما تعرضنا له علي مدار السنوات الماضية من قهر شديد جعل هناك من يستعذب هذا القهر ويتمادي في ذلك بالدفاع عمن يمارس عليه هذا القهر, فمثلا نجد الخفير في القرية يتعرض لبطش العمدة وظلمه وفي الوقت ذاته يدافع عنه, وتفسير ذلك أن احساس الخفير بالقهر يولد لديه ثقافة الدفاع عن هذا القاهر) العمدة حتي يأمن شره ويسير في ركابه متقيا بطشه, ومن المؤسف أن هناك كثيرين ممن يهاجمون النظام البائد ويرفعون شعارات مناهضة له ومنددة بالفساد الذي استشري في عهده, في حين أنهم في مقدمة من فرعنوا الفرعون وكرسوا لديكتاتوريته سعيا وراء مصالحهم الشخصية أو الايديولوجية, ومن هؤلاء من ليس لديه مانع في أن يتحالف مع الشيطان نفسه اذا اقتضي الأمر حسب قوله. سكران يري الخلاص من هذه التركة الثقيلة والإرث الموبوء, بترجمة شعارات ثورة25 يناير( حرية وعدالة اجتماعية و....) في ثوبها الطاهر بعيدا عن المزايدات والشعارات التي تستهدف مصالح خاصة لفئة خاصة, وتفعيل مبادئ الثورة وترجمتها الي أنشطة عملية ومواد تعليمية في مدارسنا وجامعاتنا, وترسيخها لدي أبنائنا في مراحل التعليم المختلفة, مطالبا بأن تقوم بهذه المهمة مجموعة من الخبراء والمفكرين والمثقفين ممن تتوفر فيهم الشفافية والانتماء والولاء لهذا الوطن. الدكتور أحمد فخري استشاري العلاج النفسي ومدرس علم النفس بجامعة عين شمس, يري أن الديكتاتور ليس رئيس الجمهورية أو وزراؤه فقط وانما هو شخص قد تجده في كل إدارة وهيئة ومؤسسة, شخص ذو نزعة سلطوية عامة يتأصل لديه الفكر الأحادي ودائما ينظر الي من يترأسهم علي أنهم ضعفاء ويتلذذ بإرهاقهم بالمسئوليات وإذلال من يتجرأ منهم علي تقديم طلب إليه بحاجة يريدها, وفي النهاية لا ينفذ لهم شيئا. وأشار الي أن طبيعة النقص في شخصية الديكتاتور المتسلط لازمة ويسعي هذا الشخص الي تعويض ما يشوبه من نقصان بالسلطة الزائدة والسعي دائما نحو الكمال بالتسلط علي من حوله, ويساعده علي ذلك أناس حوله يتملقونه ويبالغون في إضفاء صفات العظمة علي شخصه حتي يصنعوا منه ديكتاتورا يجد نفسه من طينة أرقي من جميعه مرءوسيه. الديكتاتور رئيس الوردية أو مدير الإدارة أو حتي رئيس الجمهورية, لا يستطيع أن يمارس تسلطه سوي علي فرد فرد في المنظومة التي يديرها, ولن يتمكن أبدا من إرهابهم جملة واحدة, لكن الوضع تغير الآن حسب قول فخري وأصبح هناك فضاء شاسع من الحرية صنعته ثورة25 يناير, وتوطد لدي معظم المصريين ثقافة تأكيد الذات والتعبير عن المشاعر الإيجابية والسلبية, وهو ما كان ينقص الشعب طوال سنوات عديدة, واستطيع أن أقول الآن إنه لن تكون هناك بيئة لظهور ديكتاتور أو متسلط في أي ركن من أركان الدولة لأن المصريين لن يعودوا للوراء, واذا كانت الكفاءة لم تكن المعيار الرئيسي للقيادة في العهد البائد, وهو ما أدي الي تسلح كذابي الزفة والطبالين وماسحي الجوخ والفهلوية والمخلصاتية, بأسلحة التملق والنفاق للمسئولين فأطالوا أنيابهم وفرعنوهم وجعلوا فسادهم يملأ البر والبحر فإن ذلك قد ولي ولن يعود. وحمل فخري وسائل الإعلام دورا كبيرا في صنع الديكتاتور وتلبية رغباته بحب الظهور والمبالغة في اطرائه, والثناء علي انجازاته المزعومة بما يخالف أرض الواقع, مطالبا بتحييد وسائل الإعلام وانحيازها لمصلحة المواطنين, مطالبا كذلك بتوعية المواطنين بالعمل الجماعي والمؤسسي خلال المرحلة المقبلة لأن الديكتاتور, إن ظهر, فستجرفه روح الجماعة علي حد قوله.الدكتور إبراهيم الجعفري رئيس حزب العمل قال إن الديكتاتور ظاهرة ملموسة في الدول النامية والمتخلفة والدول المركزية( ومنها مصر) التي يصل فيها الأمر الي حد تأليه الحاكم, وذلك يتوقف علي المناخ الثقافي السائد ومدي تقدم الدولة. وأضاف أن البطانة التي يستعين بها الحاكم( مهما كان موقعه في أجهزة الدولة) تلعب دورا كبيرا في تسلطه علي من حوله الي جانب التفسير الخاطئ للدين من القول بطاعة ولي الأمر وعدم الخروج علي الحاكم, فأحيانا يروج رجال الدين لذلك دون أن يدركوا أن طاعة ولي الأمر مرهونة بالتزامه بإقامة العدل بين الناس, مشيرا الي أن المناخ العام في مصر بعد ثورة25 يناير سيعظم الاستفادة من دروس ما قبل الثورة والتي من الصعب أن تتكرر بعد أن رأي الجميع عقوبة من تسلط وتجبر. وطرح الجعفري عدة حلول لتلاشي صناعة متسلطين وديكتاتوريين جدد, علي رأسها إعمال مبدأ تداول السلطة علي جميع المستويات وبجميع أجهزة الدولة, لإيجاد حراك إداري واجتماعي, والسير قدما في التنمية الثقافية والاقتصادية, وتعميق روح الديمقراطية لدي الأجيال القادمة, الي جانب رفع سقف الحرية الإعلامية, وهذا كله من شأنه أن يكون تحولا عن السلطة الأبوية وفولكلور التأليه وحرمة الخروج علي شيخ القبيلة وكبير العائلة التي يعاني منها المجتمع المصري.