سُئل رئيس وزراء اليابان يوما عن سر التطور التكنولوجى في بلاده، فأجاب: "أعطينا المُعلم راتب وزير، وحصانة دبلوماسي، وإجلال الإمبراطور"، ولكن الأمر في مصر مُختلف، الواقع يقول: إن التعليم في مصر، ليس مشروعا قوميا أو وطنيا من الأساس، القاصى والدانى يُجمعان على أن منظومة التعليم، من قمتها إلى إخمص قدمها، مهترئة بل فاشلة، والأدلة على ذلك أكثر من أن تُعدّ أو تُحصى، بدءا من العناصر والمقومات التي تحمل في كوامنها كل أسباب الفشل، وليس انتهاء بمُخرجات العملية التعليمية التي تنتج أميين لا يعرفون القراءة والكتابة، حتى لو تم استوزارهم في لحظات غادرة من عمر الوطن المنكوب، ما زلنا نجهل أن أهمية التعليم لم تعد محل جدل في أي منطقة من العالم، فالتجارب الدولية المعاصرة أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أن بداية التقدم الحقيقية بل والوحيدة في العالم هي التعليم، وأن كل الدول التي تقدمت بما فيها النمور الآسيوية قد تقدمت من بوابة التعليم ولذا تضع الدول المتقدمة التعليم في أولوية برامجها وسياساتها، بينما نحن لا نتذكرها في الأساس، ورغم أن دولا عربية مجاورة، لا تملك تاريخا كالذي نتغنى به، ونباهى به الأمم، ولا قدرا هائلا من الأغانى الوطنية النرجسية التي تحتكرها مصر، فإنها لم تكتف مثلنا بالتباكى وجلد الذات، ولكنها اهتمت بالتعليم اهتماما صادقا، وحققت فيه طفرات مدهشة، ونقلت تجارب غربية، وطبقتها تطبيقا كاملا، ولم تسمح لمافيا التعليم أن تفسد عليها حلمها، بينما نحن لا نزال مشغولين بمقاومة تسريب امتحانات الثانويتين: العامة والأزهرية، وبمكافحة ظاهرة بلطجة المدارس والاعتداء على المدرسين، وتزوير التاريخ في المناهج الدراسية، وبتأهيل مُعلم يؤمن برسالته وبدوره في خدمة مجتمعه، وبمدارس تستوعب الكثافات الكبيرة، وجامعات تقدم للمستقبل أجيالا واعدة، وليس أجيالا شائهة، ندور في دائرة مفرغة، النوايا تبدو غير طيبة، بل هي غير طيبة، لو صدقت النوايا يوما، لحققنا كل ما فشلنا ونفشل في تحقيقه، ولكننا نفشل، لأننا لا نريد أن ننجح، قبل أن تنشب جميع الثورات المصرية، وفى زمن محمد على، على وجه التحديد، حققت مصر نجاحات متنوعة وطفرات رائعة في التعليم، ولكن منذ أن طوى الزمان تلك الحقبة، صارت مصر تعاند نفسها، وتبدو غير صادقة في الارتقاء بالعملية التعليمية، وتحول التعليم إلى سبوبة سيئة السمعة، مدرسون لا يضطلعون بأدوارهم، رسالتهم في الحياة لم تعد تعليم النشء، يسخرون من حكمة أمير الشعراء أحمد شوقى: "كاد المعلمُ أن يكون رسولا"، ولكنهم يؤمنون إيمانا لا تشوبه شائبة، بأن رسالتهم في الحياة هي استنزاف أولياء الأمور، في مصر مدرسون هجروا المدارس وأقاموا مراكز تعليمية يجمعون من ورائها الملايين، الدولة عاجزة عن مواجهة دولة المعلمين، كما تعجز عن مواجهة معظم صور الفساد، داخل الدولة المصرية دول ودويلات كثيرة، صوتُ الباطل فيها أصبح أشد بأسا، وأعظم شأنا، في مصر أشكال شتى للتعليم، بدءا من الحكومى الموصوم بكل سوء، مرورا بالتعليم الخاص الذي لا يشغل القائمين عليه إلا اكتناز الأموال من حلّ ومن حرمٍ، وانتهاء بالتعليم الأجنبى الذي يُخرج طلابا غرباء عن وطنهم وواقعهم، أما التعليم الفنى ففيه تتجسد كل المآسى، وليس الأزهرى بأحسن حالا منه، لا تطوير للمنظومة التعليمية، دون حُسن اختيار القائمين على شئونها، فلا يمكن اعتماد نهج ترقية الموظفين وفقًا للأقدمية في الوظائف التي تتعلق بالإشراف على التعليم والعملية التربوية، فما أكثر النظار الذين بلغوا مناصبهم بالأقدمية، وليس استنادا إلى الكفاءة التي صارت عملة نادرة في عموم مدارسنا وجامعاتنا التي تفضل دائما أن تكون خارج قوائم الجامعات العالمية، مصر في مؤشر جودة التعليم تحصل على صفر كبير، ولم تعد تحصل على المراتب الأولى سوى في أراذل الأمور، مثل: مشاهدة الأفلام الإباحية، ونسب الطلاق، والتسرب من التعليم، وهكذا، وخلال أيام ينطلق موسم دراسى جديد، ينطبق عليه ما قاله المتنبى عن حلول العيد: "عيدُ.. بأى حال عُدت يا عيدُ؟"، فلا جديد استجدّ تحت شمس المحروسة، عقارب الزمن أسبق من فكر مسئولى التعليم والقائمين عليه، لا نهضة حقيقية لمصر بدون إصلاح التعليم، بجميع مستوياته ودرجاته، ينبغى إصلاح شأن المدرسين بإعداد أجيال جديدة مؤهَّلة للتدريس، وهذا يقتضى إصلاح شأن التعليم الجامعى الذي يخرِّج لنا هؤلاء المدرسين، فإصلاح شأن التعليم السابق على التعليم الجامعى يقتضى إصلاح شأن التعليم الجامعي، ولكن إصلاح التعليم الجامعى نفسه ينبغى أن يبدأ من التعليم الأساسى السابق على التعليم الجامعي، وهكذا نبدو وكأننا ندور في متاهة أو دائرة أو تنظير لا يروق لكثيرين، ولكنها الحقيقة التي لا مفر منها، لن يكون في مصر تعليم حقيقى، إلا عندما يعود الطالب إلى مدرسته، ويخلص المعلم في رسالته، وتختفى المراكز التعليمية البديلة، وينتهى الزمن الوضيع للدروس الخصوصية، ويعود للتعليم الجامعى رونقه وبهاؤه المفقودان، ويتولى أمره وزير يدرك مقتضيات وظيفته، وليس وزيرا يغضب ويرفض إجراء حوار مع "فيتو"، لأنها انتقدت سياساته الفاشلة، إصلاح التعليم من ضروريات الأمن القومى.. و"فيتو" ترصد في الصفحات التالية جانبا من الأعراض المرضية التي تسيطر على العملية التعليمية، وتطرح رؤى مختلفة ومتعددة للإصلاح الذي طال انتظاره، ولكنه سوف يجىء حتما في يوم من الأيام.