«نجيب» الأديب: « ذهبت لزيارة سيد ولم تعجبنى سحنته» «قطب» الإخواني: لماذا لم تعامل مصر الشاب نجيب مثل توفيق الحكيم؟! «صداقة أدبية» ف«صراع سياسي» ثم «قطيعة فكرية».. ثلاث حلقات جمعت نجيب محفوظ وسيد قطب في مسلسل عمره سنوات فكرية طويلة، احتضنت خلالها تقلبات عنيفة لكل طرف، بل وعاصفة لعلاقة ظل فيها أديب نوبل مدينًا ل«الإخواني» بفضل التلميع، وإظهاره بين أوساط المفكرين. ببساطة «محفوظ»و«قطب» كاتبان وصديقان لا تزال سيرة حياتهما مملوءة بالزخم الفكرى المتضاد، مثل كل منهما أسطورة في موقعه، جمعهما حب الأدب والشعر والثقافة، وفرقتهما السياسة والانتماءات الفكرية والحزبية، وكلاهما استطاع غزو العالم بأفكاره. عبثت الأقدار بحياتهما ليتخذ «القيادي الإخواني» من الفكر المتطرف وتكفير المجتمع وإرهابه طريقًا لتطبيق شرع الله انطلاقًا من الحاكمية، و«صاحب نوبل» من تشريح مجتمعه وتنويره طريقا لتقدمه، فصار الأول صاحب الفكر الإسلامى الأصولى الذي أصبح رمزا للإرهاب ليتم إعدامه في أغسطس 1966، والثاني التنويري صاحب جائزة نوبل في الأدب، ورمز الثقافة العربية عالميا الذي رحل في 30 أغسطس 2006. الحارة المصرية سر نجاح «محفوظ» واحد من أعظم كتاب العالم ورائد الرواية العربية وفارسها الأول، بهذه الكلمات وصف كثيرون أديب نوبل الراحل نجيب محفوظ، والذي مثل تركيبة فنية وأدبية نادرة، واستطاعت أعماله الأدبية (35 رواية و19 مجموعة قصصية وكتاب واحد مترجما بعنوان مصر القديمة أصدره سنة 1932 وعمره 21 عامًا)، تعريف العالم بالأدب العربى، بعد حصوله على جائزة نوبل في عام 1988، ليحفر بقلمه لمصر مكانة عالمية مميزة. ولعل السر في نجاح «محفوظ» يعود إلى إغراقه في تفاصيل الواقعية الإنسانية، وشغفه لفهم المجتمع المصرى وتكريس حياته له، من خلال رصد العادات والتقاليد الاجتماعية للطبقة الوسطى التي ينتمى إليها، وتشريح أصناف البشر وأمزجتهم وثقافاتهم، أي ما يمكن وصفه بالإمعان في «المحلية» فالكتابة عن الإنسان وطبيعته لا تتغير بمرور الزمن أو الأمكنة، وهذا ما جعل إنتاجه الأدبى حيًا حتى الآن. بدأ صاحب نوبل مسيرته الأدبية في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي متأثرا بأعمال سلامة موسى، جيمس جويس، فرانز كافكا، مارسيل بروست، وكان ينشر قصصه القصيرة في مجلة الرسالة، وعام 1939 نشر روايته الأولى «عبث الأقدار» التي تقدم مفهومه عن الواقعية التاريخية، ثم نشر كفاح طيبة ورادوبيس منهيًا ثلاثية تاريخية في زمن الفراعنة. ومع بدايات عام 1945 خط نجيب محفوظ مشواره الروائى الواقعى برواية «القاهرة الجديدة»، ثم تبعها ب«خان الخليلي» و«زقاق المدق»، مجربا الواقعية النفسية في رواية السراب، قبل أن يعود إلى الواقعية الاجتماعية مع «بداية ونهاية» و«ثلاثية القاهرة»، وفيما بعد اتجه محفوظ إلى الرمزية في رواياته الشحاذ، وأولاد حارتنا التي سببت ردود فعلٍ قوية، وكانت سببًا في التحريض على محاولة اغتياله. واتجه الروائي المصري في مرحلة متقدمة من مشواره الأدبي إلى مفاهيم جديدة كالكتابة على حدود الفنتازيا كما في روايتيه (الحرافيش، ليالي ألف ليلة)، حتى صار إنتاج «محفوظ» الأدبي مرآة للحياة الاجتماعية والسياسية في مصر. شغل نجيب محفوظ عدة وظائف حكومية بجانب عمله الأدبى، وانضم إلى السلك الحكومي ليعمل سكرتيرًا برلمانيًا في وزارة الأوقاف (1938 - 1945)، ثم مديرًا لمؤسسة القرض الحسن في الوزارة حتى 1954، وعمل بعدها مديرًا لمكتب وزير الإرشاد، ثم انتقل إلى وزارة الثقافة مديرًا للرقابة على المصنفات الفنية، وفي 1960 عمل مديرًا عامًا لمؤسسة دعم السينما، ثم مستشارًا للمؤسسة العامة للسينما والإذاعة والتليفزيون، وآخر منصب حكومي شغله كان رئيس مجلس إدارة المؤسسة العامة للسينما (1966 - 1971)، وتقاعد بعده ليصبح أحد كتاب مؤسسة الأهرام. تعرض «محفوظ» للطعن في عنقه على يد شابين قررا اغتياله عام 1995، لاتهامه بالكفر والخروج عن الملة، بسبب روايته «أولاد حارتنا»، التي لم تكن نشرت كاملة بمصر في ذلك الوقت، بل وتوقف نشرها في جريدة الأهرام مسلسلة في 25 سبتمبر 1950، بسبب اعتراض المؤسسة الدينية عليها واتهام محفوظ بالتطاول على الذات الإلهية، وبعد نجاته من تلك الحادثة، اتهم نجيب مغتاليه بأنهم من تلاميذ سيد قطب، لتنتهي صداقة نجيب وقطب للأبد. سيد قطب.. ذو الأوجه المتغيرة ظلت حياة الإخواني «سيد قطب» بما فيها سيرته وتحولاته الحادة، مثيرة للجدل والاستغراب من قبل كثيرين، فهو المعلم الشاعر الأديب المبدع المفكر المفسر والملحد المتطرف الأصولى مرشد الجماعات الإرهابية في آن واحد. وكل ما سبق جمعه نجيب محفوظ في وصف شخصية الإخواني عبد الوهاب إسماعيل في روايته «المرايا»، قائلا: «اليوم أسطورة وكالأسطورة تختلف فيه التفاسير، وبالرغم من أنني لم ألق منه إلا معاملة كريمة أخوية إلا أنني لم أرتح أبدًا لسحنته ولا لنظرة عينيه الجاحظتين الجادتين»، وفقًا لحديث «محفوظ» مع رجاء النقاش. امتلأت حياة «قطب» المولود في قرية (موشا) بأسيوط، 9 أكتوبر 1906، بالتناقضات فهو ابن الأسرة المتوسطة الذي باع أبوه معظم ما ورثه من أرض ليصبح واحدا من الأعيان، كما أُصيب في مرحلة صباه بمرض أصاب مفاصل عنقه، فكان لا يستطيع تحريك رقبته إلا في ناحية واحدة، وكان وحيد أبويه بجانب بنتين هو أوسطهما بعد أخ توفّى بعد أسبوع من ولادته. الظروف السابقة تركت أثرًا سلبيًّا في نفس سيد قطب، الذي كان يطمع في أن يكون له أخ شقيق، خصوصًا أن له أخًا غير شقيق آثر ألا يذكره عندما دوّن سيرة حياته، ودخل المدرسة في سن السادسة وحفظ القرآن عند العاشرة، وعرف قطب منذ الصغر بالعند والجرأة بين زملائه في المدرسة، وبعد اندلاع ثورة 1919، حرص على حضور اجتماعات الحزب الوطني، ثم حزب الوفد، حيث كان يكتب الخطب المؤيدة للثورة، ويخطب ويلقيها في المساجد ووسط التجمعات، وبرز في هذه المرحلة اهتمامه بشراء الكتب الصفراء، مثل كتاب (أبي معشر الفلكي) في الفلك والتنجيم وكتاب (شمهورش) الذي يحمل كثيرًا من الرقى والتعاويذ والأحجبة. ومع نهاية ثورة 1919 رحل إلى القاهرة عام 1922 ليلتحق بالمدرسة الأميرية، وانتهى منها في عام 1924، ثم عمل مدرسًا بإحدى المدارس وببعض الصحف مصححًا، وفي نفس الوقت التحق بمدرسة دار العلوم سنة 1929 وأنهى دراسته بها في 1933، وخلال تلك الفترة ظهرت ميوله إلى الكتابة الأدبية والنقدية، بعد تأثره بكتابة عباس العقاد؛ فواظب على حضور ندواته. وفى 1929 نشر «قطب» بحثًا بعنوان (التصوير الفني في القرآن) في مجلة المقتطف، ثم في 1933 صدر كتابه الأول (مهمة الشاعر في الحياة)، وبعدها بعامين أصدر ديوانه الأول (الشاطئ المجهول)، وصار ينشر مقالاته في صحف «البلاغ وكوكب الشرق والأهرام والمصور والمقتطف ومجلة أبوللو وصحيفة دار العلوم». انحراف أدبي استمر سيد قطب في الكتابة شعرا ونثرا ونقدا، طارحا أفكارا ليبرالية صارخة، وأخرى تحمل طابعا إباحيا، فكتب كثيرًا عن الترجمة العربية التي قام بها إبراهيم أمين الشواربي لغزليات الشاعر الفارسي حافظ شيرازي، وكان ينتقي منها ما يؤكد تغلغل الجنس في أهوائه، ك«مبعثر الخصلات، محمر الوجنات، ضاحك الأسنان تلعب به الخمر، سكران، ممزق القميص، يتغنى بالألحان، في يده إبريق من بنت ألحان.. وها قد شربنا ما صبّه الساقي في كؤوسنا». حينها علق قطب على شعر الشيرازي، قائلا: «كاتب هذا الشعر نشوان بالخمر الإلهية أو النواسية وليقل ما يشاء وكيف يشاء، فهو خير عند نفسه وعند الله من المرّائين المنافقين ومن الوعاظ الثقلاء!!».. وتلك الكلمات دفعت البعض إلى التشكيك في مدى تدين سيد قطب. وذكر سليمان فياض، في مقال له بمجلة الهلال سبتمبر 1986، وحمل عنوان «سيد قطب بين النقد الأدبي وجاهلية القرن العشرين» أنه سمع بأذنيه من قطب أنه ظل ملحدًا 11 عامًا، وهذا ما يؤكده عباس خضر في سلسلة اقرأ تحت عنوان «هؤلاء عرفتهم» مارس 1983 ص 56: «إن سيد قطب قال له يومًا إن الدين ضرورة لقيادة القطعان البشرية، ولا يمكن أن يسلس قيادها بغيره». ومما قيل أيضًا عن سيد قطب إنه كان إباحيًّا وماجنًا وداعيًا إلى العري التام، وفي ذلك يقول المؤرخ الإخواني محمد عبد الحليم، إنه (قرأ مقالًا منشورًا في الأهرام في 17 مايو 1934 للأستاذ سيد قطب يدعو فيه للعري التام، وإلى أن يسير الناس في الشوارع عرايا تمامًا كما ولدتهم أمهاتهم)، ثم يستطرد المؤرخ الإخواني، قائلًا إنه عرض على الأستاذ حسن البنا أن يرد عليه، لكن البنا منعه حتى لا تشتهر هذه الفكرة، ولعل الله يهدي سيد قطب، معتبرًا أن قطب كان متأثرًا في هذه الدعوة بموجة العري التي كانت تجتاح أوروبا والولاياتالمتحدة آنذاك. ويستند متهمو سيد قطب إلى كتاباته، فذكر الدكتور صلاح الخالدي في كتابه (سيد قطب بعد الميلاد إلى الاستشهاد) أن قصة الحب داخل رواية (أشواك) التي كتبها «قطب»، هي تجربة «سيد» نفسه، وفي الرواية مشاهد تكشف عما يمكن تسميته بالمجون، فالبطل في الرواية (سامي) -الذي هو سيد قطب- يذهب إلى (سميرة) خطيبته وحبيبته في المنزل «يقتحم عليها حجرة نومها ويفاجئها وهي أدنى إلى العري منها إلى الستر، وكانت تخول له أن يبيت في دارها دون أن يعترض والدها على ذلك، وكانت تتيح له أن ينفرد بها في ممر الدار، ويعتصرها اعتصارًا، ويرتشف منها ما شاء من رحيقها المذخور».. كما ذكر حلمي النمنم في كتابه (سيد قطب وثورة يوليو) ص 69: «قال لي أحد الصحفيين القدامى الذين عملوا مع سيد قطب في مجلة (العالم العربي) إنه حتى سنة 1948، كان يتردد بين الحين والآخر على بار (اللواء) ويحتسي قليلًا من (الكونياك) وكان مشروبه المفضل»، ثم مضى النمنم في سطوره، قائلًا: «حكى أحد مريدي سيد قطب -سابقًا- وهو على العشماوي، أنه كان في منزل سيد قطب سنة 1965 هو وبعض (إخوانه) يتباحثون في أمور (التنظيم) -الذي حوكموا بسببه بعد ذلك- وكان اليوم (جمعة) وكانت الجلسة ضاغطة، وجاء ميعاد الصلاة، فقال على عشماوي (دعنا نقم ونصلّي، وكانت المفاجأة أن علمت -ولأول مرة- أنه لا يصلي الجمعة)». بعثة أمريكا حصل سيد على بعثة للولايات المتحدة 1948 لدراسة التربية وأصول المناهج، دون تحديد مدة البعثة أو الجامعة التي يدرس فيها أو حتى الدرجة العلمية التي سيحصل عليها، مما دفع الأوساط الثقافية والسياسية للتساؤل آنذاك حول الغاية الحقيقية من سفر قطب إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، خصوصا أنه كان يبلغ من العمر 42 عاما، وكان كارها للغرب كله، مما جعل صديقه يحيى حقّي يعبر عن دهشته بعد انضمام قطب إلى الإخوان بعد عودته من أمريكا عام 1951، وتقديمه لاستقالته من وزارة المعارف. وكانت هذه البعثة ممولة من مشروع «النقطة الرابعة» الذي تبناه الرئيس الأمريكي ترومان بعد الحرب العالمية الثانية، وتم استقطاب قطب للعمل تحت لواء أجهزة المخابرات الأمريكية وتنفيذ برنامج تخريب المجتمعات الإسلامية، والتي أعلنها في رسالة بعث بها إلى أنور المعداوي، في أوائل مارس 1950. محفوظ وقطب.. أدب فرقته السياسة الأدب والنقد كانا مفتاح الصداقة بين الكاتب الشاب نجيب محفوظ، والناقد سيد قطب، عندما أعلن الأخير عن ميلاد روائى يملك ناصية الكتابة وتحريك الحدث الروائى باقتدار، بعد تأثره برواية «كفاح طيبة» وكتاباته عنها في أحد مقالاته النقدية، وهنا يذكر رجاء النقاش في كتابه «في حب نجيب محفوظ»، قائلا: «وكان أول ناقد عربى انتبه إلى أدب نجيب محفوظ هو الناقد الكبير الراحل سيد قطب، وكان أول مقال نقدى مهم عن نجيب محفوظ في الأدب العربى المعاصر هو مقال سيد قطب عن رواية (كفاح طيبة) التي صدرت عام 1944». وبعد ذلك كتب سيد قطب مقالا ثانيا، وكان عن رواية «خان الخليلى»، وكان هذا المقال الثانى له تعبيرا عن حماسته لنجيب محفوظ وفنه وتبشيرا قويا بموهبة الفنان الروائى، بعد صمت نقدى طويل، ثم كتب مقالا ثالثا عن رواية «القاهرة الجديدة»، ونشره في مجلة الرسالة، ويردف رجاء النقاش، قائلا: «سيد قطب هو صاحب الفضل الأول النقدى في مجال الانتباه إلى نجيب محفوظ وأدبه. ثم جاء تبنى «قطب» ل«محفوظ» نقديا مهتما بكل ما ينشره، معلنا غضبه على الحياة النقدية في مصر، التي تغفل كاتبا ومبدعا شابا مثل نجيب محفوظ، الذي لا يرتمى في حضن أحد، ولا يتزلف لناقد، ولا يتقرب من مسئول، ولكنه يكتب ويبدع في صمت ودأب. وفى مستهل مقاله المنشور في مجلة الرسالة، عن رواية «القاهرة الجديدة»، يقول قطب: «من دلائل غفلة النقد في مصر» التي تحدثت عنها في كلمة سابقة، أن تمر هذه الرواية القصصية «القاهرة الجديدة» دون أن تثير ضجة أدبية أو ضجة اجتماعية».. ويستطرد: «لأن كاتبها مؤلف شاب؟ لقد كان توفيق الحكيم قبل 15عاما مؤلفا شابا عندما أصدر أولى رواياته التمثيلية (أهل الكهف) فتلقاها الدكتور طه حسين، وأثار حولها فرقعة هائلة، كانت مولد الحكيم الأدبى». واستمرت علاقة محفوظ بقطب عدة سنوات، إلى أن فرقهما الصراع السياسي القائم آنذاك، خصوصا بعد عودة سيد قطب من بعثة أمريكا وانضمامه إلى جماعة الإخوان، ويذكر محفوظ في مذكراته «أن قطب هو أول ناقد أدبي التفت إلى أعماله وكتب عنها، وقال: (بدأت علاقتنا في الأربعينيات، وتعرفت عليه في ذلك الوقت، حيث كان يجيء بانتظام للجلوس معنا في كازينو أوبرا، كانت العلاقة التي تربطنا أدبية أكثر منها إنسانية)». وكتب نجيب محفوظ فصلا عن سيد قطب في رواية «المرايا» عام 1972، ورمز له بشخصية عبد الوهاب إسماعيل، فقد أقر بذلك نجيب في حديثه مع رجاء النقاش، قائلا: «لتأثري بشخصية سيد قطب وضعتها ضمن الشخصيات المحورية التي تدور حولها الرواية، مع إجراء بعض التعديلات، ولكن الناقد المدقق يستطيع أن يدرك أن تلك الشخصية فيها ملامح كثيرة من سيد قطب»، واصفا قطب في الراواية ب«إنه اليوم الأسطورة، وكالأسطورة تختلف فيه التفاسير، ورغم أننى لم ألق منه إلا معاملة كريمة أخوية إلا أننى لم أرتح لسحنته ولا لنظرة عينيه الجاحظتين الحادتين». اللقاء الأخير وبعد تحولات قطب الفكرية وتزعمه لحركة الإخوان المسلمين، انقطعت علاقة محفوظ به كما ذكر في مذكراته مع رجاء النقاش، ولم يزره حسب ما أعلن إلا مرة واحدة، حيث يقول: «ذهبت إليه رغم معرفتى بخطورة هذه الزيارة وبما يمكن أن تسببه لى من متاعب أمنية، في تلك الزيارة تحدثنا عن الأدب ومشكلاته، ثم تطرق الحديث إلى الدين والمرأة والحياة، كانت المرة الأولى التي ألمس فيها بعمق مدى التغيير الكبير الذي طرأ على شخصية سيد قطب وأفكاره.. لقد رأيت أمامى إنسانا آخر حاد الفكر، متطرف الرأي، يرى أن المجتمع عاد إلى الجاهلية الأولى، وأنه مجتمع كافر لابد من تقويمه بتطبيق شرع الله،انطلاقا من فكرة (الحاكمية) وسمعت منه آراءه دون الدخول معه في جدل أو نقاش حولها، فماذا يفيد الجدل مع رجل وصل إلى تلك المرحلة من الاعتقاد المتعصب». ويستطرد محفوظ، عندما سمعت بخبر اشتراك سيد قطب في مؤامرة قلب نظام الحكم، وصدور حكم بالإعدام عليه لم أتوقع أبدًا تنفيذ الحكم، وظننت أن مكانته ستشفع له، وإن لم يصدر عفو عنه فعلى الأقل سيخفف الحكم الصادر ضده إلى السجن المؤبد على الأكثر، ثم يخرج من السجن بعد بضع سنوات، وخاب ظنى ونفذ حكم الإعدام بسرعة غير معهودة أصابتنى بصدمة شديدة وهزة عنيفة، فرغم الخلاف الفكرى بينى وبينه إلا أنني كنت اعتبره حتى اليوم الأخير من عمره صديقًا وناقدًا أدبيًا كبيرًا، كان له فضل السبق في الكتابة عني، ولفت الأنظار إليّ في وقت تجاهلنى فيه النقاد الآخرون.