لست بحاجة إلى القول بأن الديمقراطية ترتكز على التعددية السياسية الحقيقية، والتداول السلمى للسلطة، وأن الأمة هى مصدر السلطات..وأن نظام الحكم الديمقراطى يستلزم الفصل الحقيقى والتوازن التام بين السلطات: التنفيذية، التشريعية، والقضائية، وأن أى إخلال فى هذا التوازن يعرض الدولة والمجتمع لعواصف شديدة قد تؤدى إلى زعزعة استقراره واضطراب أمره، وما ينجم عن ذلك من تخلف علمى وتقنى وحضارى، علاوة على المشكلات والأزمات التى يعانيها المجتمع فى كل مجالات الحياة.. وقد لاحظنا فى فترات كثيرة من حياتنا، خاصة فترات الديكتاتورية والاستبداد، أن السلطة التنفيذية تسعى دوما للتغول وإحكام السيطرة على كل من السلطتين، التشريعية والقضائية..لاحظنا ذلك فى الحقب الثلاث: الناصرية، الساداتية، والمباركية.. لعلنا نتذكر تصريحات أستاذنا المستشار طارق البشرى التى أدلى بها إلى صحيفة الشروق الصادرة يوم السبت 13 أكتوبر 2012، حيث انتقد العلاقة بين الهيئات السياسية والقضاء فى الآونة الاخيرة، ووصفها بأنها مقلقة..وقد قال الأستاذ البشرى: «لما كان مجلس الشعب قائما، لم يصدر قانونا للعزل السياسى إلا عندما تقدم من أغلبيته مرشح للرئاسة وتقدم ضده مرشح آخر ينتمى للنظام القديم..وعندما شعر المجلس بأن القانون سيبدأ حتميا فى المحكمة الدستورية العليا - وهو ما حدث فيما بعد - لجأ إلى تهديد المحكمة بإدخال تعديلات فى قانونها، وهذا أمر مرفوض.. واليوم يتكرر بشكل آخر بصدور قرار جمهورى غير سليم بإقالة النائب العام، ما يدل على نظرة مرفوضة تماماً للهيئات القضائية»..ثم قال: «المستشار عبدالمجيد محمود أصلح من تولى منصب النائب العام فى نصف القرن الأخير، فيما أعلم، وأنا آسف وغاضب أن يصنع بهذا الرجل ما يصنع الآن»..قد نتفق او نختلف مع ما قاله المستشار البشرى، لكن لا أحد يختلف معه فى وصفه للعلاقة بين السلطتين،التنفيذية والقضائية، بأنها مقلقة، خاصة أنه لا يوجد مجلس شعب، ولا دستور يحدد صلاحيات رئيس الدولة الذى توافر له ما لم يتوافر لغيره من الرؤساء. وقد لقى قرار إقالة النائب العام رفضا واستهجانا من قضاة مصر، حيث صرح كثيرون منهم ان الدفاع عن المستشار النائب العام هو دفاع عن مبدأ استقلال القضاء..وليس هذا جديدا، إذ أن القضاة وقفوا واعتصموا بسبب إحالة المستشارين محمود مكى وهشام البسطويسى للتأديب عام 2006 لرغبة الرئيس المخلوع الذى كان يريد فصلهما، ولم يكن ذلك دفاعا عن شخصيهما، بقدر ما كان دفاعا عن الشرعية والسلطة القضائية..جدير بالذكر انه بموجب قانون السلطة القضائية، لا يمكن إنهاء عمل النائب العام إلا فى حالات ثلاث هى: تقديمه للاستقالة وطلب الإعفاء من العمل، بلوغه سن المعاش، أو الوفاة..وأن القضاة بصفة عامة بمن فيهم النائب العام غير قابلين للعزل إلا بالطريق التأديبى، ولا يجوز لرئيس الجمهورية تأديب أى قاض. لا أعرف من الذى أشار على الدكتور مرسى بتعيين النائب العام المستشار عبدالمجيد محمود كسفير لمصر فى الفاتيكان، كتغطية على إقالته من منصبه؟..ولا أعرف لماذا تم ذلك فى هذا التوقيت بالذات؟ ولماذا لم يتم قبل ذلك، أى منذ تولى الدكتور مرسى منصبه؟ ثم ألم يكن هناك سبيل آخر غير ذلك، كأن يقوم الرئيس بتغيير قانون السلطة القضائية - ومعه سلطة التشريع - بحيث يعطيه الحق فى الإقالة، بالرغم من صعوبة تنفيذ ذلك؟ أيضاً ألم يكن ممكنا تحويل النائب العام الى لجنة الصلاحية لترى بشأنه ما تراه، إيجابا أو سلبا؟ لا أعرف أيضاً من الذى أشار على الدكتور مرسى بأن يصدر قرارا بعودة انعقاد مجلس الشعب الذى حكمت المحكمة الدستورية العليا بحله، واضطر الرجل إلى التراجع بعد أن أبطلت الدستورية العليا قراره؟ لماذا هذا التخبط، والارتباك، والارباك؟ وهل هناك من يريد توريط الرئيس مرسى؟ وهل هناك من يسعى للعصف بالسلطة القضائية؟ وهل هناك من يعمل - عن قصد أو غير قصد - لإحداث فتنة لا تبقى ولا تذر؟ هل هناك من يريد إحداث صدام بين الرئيس مرسى - القابع على رأس السلطة التنفيذية - والسلطة القضائية، ولمصلحة من؟ نحن نعلم أن ثمة فسادا أو بعض فساد طال بعض القضاة، وأن هؤلاء لعبوا دورا أيام الرئيس المخلوع فى تزوير الانتخابات النيابية والاستفتاءات، وأنهم كانوا ألعوبة فى يد مباحث أمن الدولة، وأن هؤلاء مازالوا فى مواقعهم حتى الآن..لكن من الإنصاف أن نقول إن الجسد العام للقضاء مازال والحمدلله سليما، وهو من ثم مطالب بتطهير نفسه ونفى الخبث عنه..كان من المنتظر ان تتم عملية التطهير عقب تنحية الرئيس المخلوع مباشرة، لكن شيئا لم يحدث، وبقى كل شيء على حاله..ثقتنا كبيرة فى القضاة المصريين، وانهم معدن نفيس، تظهره وتكشف عنه الأزمات..لكن من المؤكد اننا أمام أزمة حقيقية تتمثل فى انعدام الثقة لدى الجماهير تجاه القضاة والهيئات القضائية، وقد شارك فى ذلك عدة جهات..من المؤكد أيضاً ان هذه الأزمة ليست وليدة اليوم، لكن جذورها ممتدة عبر عقود، وكيف ان السلطة التنفيذية بذلت جهودا مضنية فى محاولة تلويث سمعة بعض القضاة، املا فى كسر شوكة جميع القضاة واسقاط هيبتهم أمام الشعب، بل كانت هناك محاولات لإفساد السلطة القضائية التى تمثل صمام أمن المجتمع والحصن الأخير للعدالة. لله الفضل والمنة، فقد استطاع المخلصون والعقلاء من أبناء هذا الوطن أن يقوموا بدور إيجابى فى أزمة النائب العام والترتيب للقاء الدكتور مرسى بالنائب العام والمجلس الأعلى للقضاء صباح يوم السبت 13 أكتوبر الماضى، حيث تم نزع فتيل الأزمة مع القضاة وذلك بإيقاف اجراءات تعيين النائب العام كسفير لمصر فى الفاتيكان، وبالتالى بقاء الرجل فى منصبه، وان المسألة كلها لم تعدو أن تكون سوء فهم..هذا شيء جيد..فمصر ليست فى حاجة إلى مزيد من أزمات، والمشرحة كما يقال فى المثل ليست بحاجة لمزيد من «القتلى»..أعلم ان هناك فصائل سياسية وجماعات لن يرضيها ما تم التوصل اليه، وان الرئيس ما كان ليتراجع عن قراره..بينما سيصف آخرون تراجع الرئيس عن القرار بانه عدم وضوح رؤية من الأساس، وانه تعجل فى اصداره دون إدراك حقيقى للعواقب والآثار والتداعيات التى يمكن ان تترتب عليه. بقيت نقطة على درجة كبيرة من الأهمية، وهى ضرورة صدور قرار بقانون لإنشاء هيئة للعدالة الانتقالية..ان الانتقال من دولة ديكتاتورية مستبدة بوليسية باطشة قمعية، قامت ثورة من اجل اسقاطها، الى دولة سيادة القانون يحتاج الى مرحلة وسيطة..مرحلة انتقالية وسط بين شرعية ثورية وشرعية دستورية..هذه المرحلة يطلق عليها مرحلة «العدالة الانتقالية»، وهذه لها قوانينها وإجراءاتها ووسائلها وأدواتها التى تختلف عن الاوضاع العادية..العدالة الانتقالية تؤمن بالثورة وتسعى لتحقيق أهدافها..هى عدالة معنية بجرائم الماضى، ولفترة معروفة، ولا تنظر فى جرائم المستقبل، بمعنى انه يتوقف عملها بانتهاء فترتها..بمعنى اخر، تعمل العدالة الانتقالية على محاسبة ومساءلة من ارتكبوا جرائم قتل او تعذيب او إخفاء قسرى فى مدة محددة، وفى ظروف خاصة او استثنائية كظروف الثورة، حيث تعتبر الجرائم فى هذه الحالة جرائم ضد الانسانية، وهذه للأسف غير معروفة لدى القانون المصرى ولا القضاء ولا النيابة..كما ان العدالة الانتقالية تعمل على تطهير المؤسسات: القضائية، والشرطية، والإعلامية، بل تصل الى الحقيقة الغائبة او المغيبة من خلال ما يعرف ب»لجان الحقيقة»، فضلا عن انها تكون ضمانا لعدم حدوث او تكرار تلك الجرائم مرة اخرى، ثم هى توفر تعويضا كريما لضحايا نظام بكامله.