وقف شاخصا بصره شطر السماء... أطال النظر وكلما عزم على خفض بصره والمضي تعجب من ذلك الشيء الذي يشد نظره إلى السماء... غالب نفسه مرات ومرات حتى استطاع أن يلتفت عن السماء وينصرف من ذلك المكان الموحش الذي يكاد من وحشته أن تسمع لسم الخياط حين يسقط على الأرض فيه دويا من فرط السكون. مضى متجها إلى داره التي تبعد عن ذلك المكان بنحو كيلو متر أو يزيد.. يسير وساقاه ترتعدان فقد اجتمع عليه الخوف والبرد.. بعد رحلة ما كان أشق منها على نفسه أبصر من بعيد الشيخ عبد الله جاره يجلس أمام الدار اللصيقة بداره من ناحية اليسار وقد وضع عن يمينه المذياع الذي يصدح كعادته بالقرآن. هرع إليه أو على وجه الدقة حاول أن يمد خطاه نحو الشيخ.. فقد كان كما الغريق الذي أبصر الشاطئ.. وصل أخيرا وقد نال منه الجهد ما نال.. أراد أن يسلم على الشيخ فما استطاع أن يمد يده ولا أسفرت شفتاه عما يفهم.. فلما رآه الشيخ عبد الله على تلك الحال الغريبة راح يأخذ بيده ليدخله الدار. أجلسه على ( الكنبة ) التي تتصدر الصالة حتى يهدأ فلما اشتدت به الرعدة خلع الشيخ عباءته وسجاه بها.. ثوان معدودات وغط الرجل في نوم عميق... ذهب الشيخ عبد الله إلى داره أخبرهم بما كان.. وقرر المبيت عند جاره الأرمل.. الوحيد الذي لم يسفر زواجه عن أبناء....جلس الشيخ على الكرسي المواجه (للكنبة) التي ينام عليها سعيد.. وهو يرقبه ويحرص ألا ينام خشية أن يصيبه شيء... أذن لصلاة الفجر.. أفاق سعيد ليجد الشيخ عبد الله يصلي إلى جواره.. توضأ سريعا ثم أدركه في الركعة الثانية.. وصلى خلفه. سلم الشيخ... أتم هو الركعة الفائتة.. فلما انتهى نظر إلى الشيخ الذي استقبل نظرته بحنو وابتسامة ثم قام.. جلس إلى جواره.. ربت على كتفه.. وسأله عن حاله الآن.. أجاب أنه بخير.. تساءل الشيخ مستغربا عن ذلك الذي يصيب جاره منذ ما يزيد عن الشهر.. تحديدا في اليوم التالي لوفاة زوجته... بكى سعيد.. أجهش في البكاء ثم نظر إلى الشيخ وعيناه تلمعان من الدمع المنهمر منهما ثم حكى للشيخ حكايته.. حكى عن زوجته وتعلقه بها، وكيف أنه التقى بها أول ما التقيا في هذا المكان الموحش.. الآن الذي لم يكن وقتها موحشا بل كان آنذاك حديقة مورقة مزهرة تسر الناظرين. التقيا فتحابا كما لم يحب أحد أحدا...كان ينظر إليها في هذه الحديقة عقب الغروب ثم ينظر إلى السماء فيبتسم فتتساءل عن سر تبسمه فيطلب منها أن تنظر إلى نجمة في السماء ويقول لها أنتما صنوان.. كأنك تنظرين إلى المرآة حين تطالعينها..هكذا كانت عينه المحبة تراها.. بل راح خياله إلى ما هو أبعد من ذلك.. فكان من فرط حبه إياها كما أخبرها يظن أنهما زوجتين... هي في الأرض والنجمة التي في السماء... ماتت زوجته الأولى... فراح يبحث عن الثانية التي في السماء !