من زمااااان... وبتؤدة ، ظل يردد أمامي، بين الحين والحين، انه سوف يذهب صوب الأسواق القديمة ليبحث عن كرسي هزاز، ويشتريه!! وأجيبه: اشمعني كرسي هزاز يعني؟!.. ويرد عليّ: ما أعرفش هو كده وخلاص.. ثم يصمت كعادته كمن سقط في حلم، ثم أهيعود ويواصل الكلام: يمكن أكون عاوز اقعد في بلكونة واشوف الشمس وهي بتروح علي الجبل.. يصمت.. ثم يواصل بدهشته: ما هو المقطم ده شرح، مش ضيق زي فضل الله عثمان .. ويغيب في صمته المعتاد، وأنا تدهشني أحلامه!! قبل رحيله بيوم أنا زرته.. كان خرج من المستشفي، ورأيته هذه المرة مكسور الروح، وصامتا (أنا أعرفهم كلهم عندما يصمتون ويتهيأون للرحيل، وكان يعرف عني ذلك.، كان قد انتقل إلي شقته الجديدة التي تبعد عني بشارعين. كان قد حكي لي عنها، ونحن نقف في بلكونة شقتي في الدور الأرضي: هي زي دي تمام. دور أرضي ولها جنينة، وفيها أوضه. بحمام، دي أنا هاخودها، ويعود فيؤكد لي: جنب اندريا ياجدع.. جنبك.. شرحة والشمس بتدخلها من أول النهار لأخرة.. آه.. هي غالية صحيح لكن تستاهل.. ما أنت هتشوفها. أخبرته في نفس الليلة ان حوريس ابني جاب فيلم اسمه «باريس منتصف الليل»، عن شاب يرتد به الزمن الي العشرينيات فيقابل هيمنجواي وفيتزجيرالد وجيرتروا استاين وبيكاسو ودالي وغيرهم من شباب العشرينيات البديع.. فيلم سوف تري فيه العجب.. أجابني بغير حماس بلا زمته: لا ياشيخ وعاد إلي صمته. كان يجلس علي الكنبة بالقرب من البلكونة ينظر إلي الليل في الخارج.. تأملته، وبسبب من طول العشرة ضمت من خفت الشارع وتلاشي الأحلام. رأيت علي الجدران المستنسخات التي أعرفها من أيام أمبابة دون كيخوت وتابعه لبيكاسو.. وصورة السيدة لمودلياني.. وصورة لرجل أفريقي نحيل يرحل في الزمن لجياكوميتي.. وحقل حنطة وغربان لفان جوخ، وبعض الصور لفنانين لا أعرفهم. اقترحت عليه أماكن تعليقها علي الجدران.. فأجابني بغير مبالاة : بكرة نعمل ده. اليوم التالي ، الساعة ثلاثة إلا ربع دق الهاتف.. رفعت زوجتي السماعة فجاء صوت أم هشام زوجة إبراهيم: - الحقيني يا أحلام أنت وسعيد، إبراهيم معرفش جري له إيه.. الزمن الذي قطعت فيه الشارعين أنا وزوجتي مر في لمحة بصر. ونحن ندخل من باب الشقة علي بكاء الأسرة. كان إبراهيم راقدا علي كرسيه الهزاز، في صالة الشقة التي تطل علي حديقة صغيرة، والتي تجاور أندريا. كان رأسه ساقطا علي كتفه، وكان ممددا علي الكرسي ويده تتدلي من حافته.. أنحنيت أفحصه، وأربت علي بدنه الذي نحل بشدة، وأحاول أن أسمع دقات قلبه.. تأملت وجهه كان غاضبا ومتألما، وأنا واقف أحصي سنيني وأيامي، ودورات الزمان من أول العمر حتي اللحظة الراهنة.. كان يضنيني منظره بالفعل وبداخلي ذلك الصوت الذي قال : ميت أنت، لست تقوي علي البكاء، قلي لي كيف لك أن تبكيني؟ اشتد العويل خلفي، بكاء زوجتي، وصوات الزوجة المكلومة، وجدتني أبكي الرجل الذي صاحبته كل هذا العمر، نتفق ونختلف ونتكاره، وتجمعنا أشياء وتفرقنا، ولكن كان حيني يراني يبتسم من تحت شاربه الكث ويسألني عن اولادي. دخل بواب العمارة الطيب علي الصوات، ودخل رجل غريب، ودخلت سيد محجبة ،حملناه نحن الثلاثة إلي غرفة داخل الشقة. نزعت عنه ملابسه، وراعني نحوله، نحول ذلك الجسد الذي عاش يقاوم الموت سنوات بشريان وحيد.. كنت أبكي وأصيح بعالي الصوت.. مع السلامة يا أصلان.. مع السلامة يا راجل ياجميل.. وفي لحظة تواترت وجوه من رحلوا ممن أحببتهم يصحبهم صوت أمل دنقل: كل الأحبة يرتحلون . فترحل شيئا فشيئا من العين ألفة هذا الوطن