كانت القاهرة بلا ضجيج أو ازدحام.. نبضات قلبها تدق بانتظام يعكس رشاقة أحيائها وجمال طرقها المشقوقة وفق تنظيم حضارى بديع.. فتنته مصر القديمة فأصبح مولعًا بها حتى قرر تقديم استقالته من الجيش الإنجليزى والبقاء في مصر، ليهدى إلى المصريين متحفًا حمل اسمه بجوار جامع أحمد بن طولون أقل ما يقال عنه أنه شاهد على عظمة أم الدنيا. ولد جاير أندرسون، في بريطانيا عام 1881، واستقر بمصر منذ عام 1908، وفي عام 1935، تقدم بطلب إلى لجنة حفظ الآثار العربية، لضم بيتى «الكريتلية»، و«آمنة» معًا، ليصبحا بيتا واحدًا يسكن فيه. وتعهد أن يقوم بتأثيثهما على الطراز الإسلامي العربي، ويعرض فيهما مجموعة من المقتنيات الأثرية الفرعونية والإسلامية، على أن يصبح أثاث المنزل، وما به من آثار ملكًا للشعب المصري بعد وفاته أو حتى في حال مغادرته مصر بشكل نهائى، فوافقت اللجنة على طلبه خاصة وأن البيتين كانا أثرًا مهجورا. ويتكون بيت جاير أندرسون، من بيتين، يرجع تاريخ بناء الأول منهما إلى عام 974 هجرية – 1540 ميلادية، وقد شيده عبد القادر الحداد، وآخر من آلت ملكية البيت إليه هي سيدة تعرف باسم «آمنه بنت سالم»، ولذلك يعرف ب«بيت آمنة». أما البيت الثانى فشيده الحاج محمد بن الحاج سالم بن جلمار الجزار، في عام 1041 هجرية – 1632 ميلادية، وفى وقت لاحق انتقلت ملكية هذا البيت إلى سيدة أجنبية من جزيرة كريت، ومنها أخذ البيت تسميته حيث يعرف الآن ب«بيت الكريتلية». وكان هذين البيتين قبل أن يسكنهما جاير أندرسون، محطة لترويج الكثير من الأساطير بين المصريين، فقد قيل عنهما أنهما كانا مرسي لسفينة النبى نوح، عليه السلام، بعد عصر الطوفان، ومنبع هذه الأسطورة موقع البيتين حيث شيدا على جبل يعرف باسم «يشكر بن جديلة»، وهى قبيلة عربية أقامت معسكرها على هذا الجبل عند الفتح الإسلامى لمصر، وهناك من إدعى أن كل من ينظر إلى مياه البئر الموجودة وسط البيتين وتمنى أن يرى من يحبه سيظهر له وجه محبوبه فوق الماء. وحين أقام «أندرسون»، في هذا المكان ضم البيتين على بعضهما، عن طريق قنطرة جعلته بيتًا واحدًا، ولم يدخر جهدًا في تنظيم البيتين ولم يبخل بإنفاق المال على شراء الأثاث لهما، وتزيينيهمال بأجمل القطع الأثرية التي ترجع للعصور الفرعونية المختلفة ومن أهمها القناع الأصلى للملكة نفرتيتى. وهناك أيضًا تمثال أثرى لقط فرعونى معروض الآن بغرفة الآثار الفرعونية داخل متحف جاير أندرسون. هذا بجانب العديد من اللوحات الفنية النادرة المعروضة في حجرة «الرسم»، والتي رسم أغلبها «أندرسون» بنفسه، لأن ولعه بمناطق مصر القديمة حوله من طبيب إلى فنان تشكيلى بارع. ومن أهم اللوحات الفنية التي رسمها أندرسون، بورتريه لشاه إيران، كتب عليه «إهداء إلى صهر الملك فاروق الذي أحببته كثيرًا». ولأن جاير أندرسون، عرف بحبه الشديد للسفر إلى كل أنحاء العالم، فقد كان خلال رحلاته المتعددة يحرص على إقتناء أهم أثر يتميز به البلد الذي يزوره، ويجلبه معه إلى مصر ثم يضعه في بيت الكريتلية، وهذا ما جعل البيت تحفة معمارية وأثرية نادرة الوجود، ومن هذه الآثار الغرفة «الهندية»، وحفظ فيها مقاعد وأدوات رياضة اليوجا التي تعمل على تصفية الذهن وإكساب النفس الهدوء. بجانب الغرفة «التركية»، والتي تحوى العديد من آثار المملكة العثمانية في ذلك الوقت، وهو ما أضفى على هذه الحجرة نوعًا من الفخامة قلما يوجد في غيرها. ويلمس الزائر لمتحف جاير أندرسون، مدى الذوق الرفيع الذي كان يتحلى به هذا الرجل بمجرد أن يدخل إلى غرفة نومه، والتي تشبه تحفة فنية لا نسمع عنها سوى في حكايات ألف ليلة وليلة. هذا بجانب المكتبة الشخصية ل«جاير أندرسون»، والتي صفت أرففها بالآلاف من الكتب والمراجع التاريخية النادرة. وفى قاعة مجاورة لحجرة المكتبة ستقع عين الزائر على صالة الطعام، وفيها «سفرة» وبعض من المجسمات الأثرية التي جمعت من شتى بلدان العالم. أما «الحرملك»، وهى صالة استقبال الضيوف من الرجال فقد وضع فيها جاير أندرسون، كل ما أفرزته قريحة فنانى العالم، لتشبه واحة من السحر والخيال. ومن أجمل ما يميز «السلاملك»، وهى غرفة استقبال الضيوف من السيدات، ذلك الممر الصغير الموضوع به بعض المقاعد الخشبية والتي كان يجلس فوقها النساء لإختلاس النظر على حفلات الرجال ببهو المنزل، وفوق هذه المقاعد جلست الفنانة وردة، أثناء تصوير مشاهد فيلمها «المظ وعبده الحامولى». ولم يغفل جاير أندرسون، إنشاء استراحة خاصة بالخدم الذين كانوا يقومون على جلب الشراب والطعام لأصحاب البيت وضيوفهم. ومن أجمل الغرف الملحقة بمتحف أندرسون حجرة الولادة، والتي كان يجري فيها جاير أندرسون عمليات الولادة لنساء مصر بنفسه، ويوجد في هذه الغرفة كل الأدوات الطبية التي كان يستخدمها في ذلك الوقت. وفى غرفة الولادة أيضًا، احتفظ أندرسون، بالعديد من لعب الأطفال والتي كان يهديها إلى السيدات بعد إتمام عمليات ولادتهن بنجاح كهدية للمولود الجديد. ويختتم الزائر رحلته إلى متحف جاير أندرسون بالتريض في الحديقة الغنائة الملحقة بالمتحف والتي زرع أشجارها وزهورها «أندرسون» بنفسه. وتقديرًا لهذه العاطفة الجياشة تجاه مصر، وحرصه على إهداء القاهرة متحفًا متكامل الأركان، بجانب دوره في تطبيب الجنود المصريين منح الملك فاروق الأول، جاير أندرسون لقب «باشا»، في عام 1943، وأتخذه طبيبًا خاصًا للعائلة الملكية، وفى عام 1945، توفى جاير اندرسون، ونفذت وصيته وآلت ملكية البيت وما يحويه من كنوز إلى الحكومة المصرية، وتحول إلى متحف ومقصد للزائرين من كل أنحاء العالم.