لم اكن قد رأيت هذا المتحف من قبل او حتى سمعت عنه حتى جاءت اللحظة التى اعلنت فيها كلية الاثار بجامعة القاهرة وهى الكلية التى اكملت فيها دراستى الجامعية عن تنظيم زيارة ميدانية إلى متحف جاير اندرسون وذلك ضمن مجموعة الاثار والمتاحف التى كنا نتعرض لدراستها وجاء يوم تلك الزيارة وما ان دخلت بيت الكريتلية وهو ما يعرف لدى البعض بمتحف جاير اندرسون حتى انبهرت عيناى بما رأيت ومنذ ذلك الحين وانا ارى فى هذا المكان جمالا وروعة لم ترها عينى من قبل وساخذكم الان إلى جولة بهذا المتحف وكانكم ترونه من واقع مشاهدتى . بدأنا جولتنا انا وزملائى بصحبة احد اساتذتنا فى الكلية الذى بدا الحديث قائلا أن هذا البيت ينفرد بعناصر معمارية كثيرة ليس لكونه واحدًا من البيوت النادرة المتفردة الباقية من عمارة البيوت والقصور فى الحقبة العثمانية فقط بل هو ينفرد بخصوصيته حتى بين هذه البيوت القليلة فهذا البيت به سبيل لسقاية الناس وهو ما يندر وجوده فى عمارة البيوت، فالسبيل دائمًا كان ملحقا بعمارة دينية: مسجد أو زاوية أو رباط وفى أحيان قليلة بعمارة مدينة مثل شاهد أو مدفن أما أن يكون ملحقا ببيت فهذا نادر جدًا. وسبيل بيت الكردلية يحتل زاوية الركن الأيمن الأرضى فى الدار ليطل على الخارج بشباكى تسبيل واحد على الحارة والآخر فى واجهة الدار بجوار باب الدخول الرئيسى، من هذين الشباكين كان يناول المزملاتى أو خادم السبيل الماء لمن يطلبه، حيث يغرف الماء من بئر عميقة توسطت حجرة السبيل وهى التى كانت تملأ بماء النيل العذب، والبئر مبنية ومبلطة بالحجر ومقببة السقف، أما سقف حجرة السبيل فقد كان من براطيم خشبية مزخرفة بأشكال هندسية ولا تزال محتفظة بألوانها الزاهية. واكمل استاذنا قائلا ان هذا البيت يتميز بالمدخل المنكسر الذى يتشكل من دركاه - مساحة تلى المدخل مباشرة - ودهليز يفضى إلى صحن البيت. هذا الشكل لمدخل الدار الذى يسمى بالمدخل المنكسر تميزت به عمارة البيوت الاسلامية فى العصر المملوكى والعثمانى. وحين سلكنا إلى صحن الدار وهو فناء واسع أقرب إلى شبه المنحرف فى شكله، تتوسطه فسقية من الرخام الأبيض النقى، لمسنا تفردًا آخر فالصحن هنا يشكل الايقاع والتشكيل العمرانى للبيت كله المبنى على العقيدة الاسلامية فهو يمثل الرئة بالنسبة للمنزل فكافة طوابق المنزل وقاعاته خصوصًا قاعات الحرملك تنفتح عليه بدلا من الانفتاح على الخارج وهذا حفظا لحرمة البيت وساكنيه. وتتوزع على محيط صحن الدار قدور برميلية من الفخار تستند على أحواض من الرخام الأبيض ذات مصب يتجمع فيه الماء الرائق المرشح من القدر فيروى منه أهل الدار فى كل حين. وتوزعت أيضًا بين هذه القدر أصص لنباتات الزينة الجميلة. وصعدنا من الطابق الأرضى على سلم يفضى بنا إلى المقعد وهو مكان فسيح ينفتح على صحن الدار. ومن المقعد دلفنا إلى السلاملك وهو قاعة الاستقبالات الخاصة بالرجال وهى تنقسم إلى ثلاثة أجزاء شأنها شأن أية قاعة في بيوت الأعيان فى العصر المملوكى العثمانى. فهناك ايوانان موزعان على جانبى القاعة ويحصران بينهما درقاعة فى الوسط - وهى كلمة فارسية تعنى الجزء المنخفض فى القاعة. وكل إيوان احتوى على شباك كبير غشى بالمشربيات المشغولة من خشب الخرط بدقة وتفنن باهرين وقد فرشت القاعة كلها بوسائد وثيرة مكسوة بالجوخ المنقوش والكسوات المخملية وتوزعت فى كافة أرجاء القاعة طقاطيق صغيرة من الخشب مشغولة بطرز اسلامية ومطعمة بالعاج والصدف. أما سقف هذه القاعة فمكون من براطيم خشبية طليت بلون بنى داكن وزخرفت بزخارف هندسية. وتوجد أيضًا صينية طعام كبيرة مستديرة من النحاس المزخرف وعليها مجموعة من السلاطين النحاسية وهى تعود إلى العصر العثمانى. ندلف إلى الحرملك وهى قاعة ذات سلم منفصل تمامًا وأكثر ما يميز هذه القاعة تلك المشربيات الكبيرة المنمقة الجميلة فى كل جهة من القاعة وهى تطل على كل جهات المنزل الداخلية والخارجية حيث تتابع من ورائها حريم الدار كل ما يدور فى صحن الدار أو فى الحارات المحيطة بالدار دون أن تنكشف وجوههن على أحد من المارة الغرباء. وتضفى هذه المشربيات أيضًا نوعًا من البهجة والصفاء على قاعة الحريم لما يتسلل من فتحاتها من ضوء صاف وهواء رائق هذا فضلا عن أن وجودها يكسر حالة الركود والملل التى تعايشها الحريم فى الحرملك بما يتابعنه من ورائها لأحوال الشارع. ولاحظنا ان القاعة أنها مفروشة بوسائد وثيرة وبسط منقوشة جميلة ورقيقة. ومن قاعة الحرملك دخلنا إلى غرفة صغيرة أشبه بقمرة وهى غرفة الكتابة والخطاطة الخاصة بأندرسون وفى طريقنا إليها نمر على غرفة كانت مخصصة للقراءة والآن يستغلها المتحف كقاعة لترميم مقتنيات المتحف من السجاد والبسط والمنسوجات. ثم صعدنا على سلم افضى بنا إلى سطح البيت الذى كان بمثابة مقعد السيدات الصيفى. وتوزعت القدور الكبيرة حول داير السطح ونلمح أحواضًا لغسيل الوجه ومحار علقت عليها صنابير نحاسية لطيفة بمحابس من النحاس المشغول المفرغ، إضافة إلى المزولة الشمسية التى علقت فى أحد الأركان وهى عبارة عن قطعة من الرخام الأبيض ومنحوت عليها أرقام وإشارات لتحديد المواقيت. وهبطنا بعض الدرجات حتى وصلنا إلى الغرفة الفارسية وهى غرفة تحتوى على أثاث مصنوع من الطراز الفارسى. ثم انتقلنا إلى الغرفة التركية وهى التى بها صالون على الطراز التركى ومن نفائس هذه الغرفة لوحة لمحمد علي الكبير بالتصوير الزيتى مؤرخة "1806م" أى بعد توليه حكم مصر بسنة واحدة فقط. ومن رواق فى هذه الغرفة نسير إلى الغرفة الدمشقية وهى عبارة عن غرفة مزخرفة بالكامل بزخارف نباتية وورود يغلب عليها اللون الوردى وهذه الزخارف تشمل السقف وكل الجدران حتى الأرضية. أما قاعة الاحتفالات نفسها فى هذا المنزل فهى تعد من أفخم القاعات الموجودة فى كل البيوت والقصور الاسلامية ، فطولها 15 مترًا وتنقسم إلى إيوانين عظيمين الايوان الأول على يمين الداخل يتصدره عرش هائل كأنه عرش ملكى من الخشب المنقوش والمزخرف والمطعم بالصدف والعاج. والايوان الثانى كان بدخلة عميقة بها غرف للاختلاء الخاص للتشاور بعيدًا عن الجميع. ومن هذه الغرفة الباهرة نهبط إلى صحن الدار الذى يماثل صحن دار الكردلية ويتوسطه أيضًا فسقية من الرخام، لكن مما هو جدير بالذكر أن من الغرف الموزعة على هذا الصحن غرفة الولادة وهى الغرفة التى كانت تخصص للولادة وبها عدة مقاعد خشبية كانت تستخدم لمساعدة السيدات فى الولادة. وفى نهاية جولتنا لم نكن لننسى ان نسال عن سبب تسمية المكان بهذا الاسم فاوضح لنا استاذنا ان بيت الكريتلية بناه أحد أعيان القاهرة وهو محمد بن الحاج سالم بن جلمام الجزار عام 1631م/ 1041ه يعد من الآثار الإسلامية النادرة والثمينة فى القاهرة، لكونها تعطى أمثلة حية على ما وصلت إليه العمارة الإسلامية من رقي وتحضر. وقد تعاقبت الأسر الثرية فى السكن فى بيت جلمام الجزار حتى سكنته سيدة من جزيرة كريت فعرف منذ ذلك الحين ببيت الكريتلية أو الكردلية وهو مسجل بهذا الاسم فى مصلحة الآثار. وعن سبب تسمية البيت باسم متحف جاير أندرسون، فيرجع ذلك إلى عام 1935م حين منحت الحكومة المصرية الرائد جاير اندرسون الذى كان يقيم فى القاهرة حق الاقامة فيه. وقال انه وخلال اقامة اندرسون فى بيت الكريتلية استطاع تجميع مجموعة متنوعة من الاثاث والسجاجيد وأشياء أخرى من الفنون والحرف الشرقية المصرية وقد استقر اندرسون بمصر منذ عام 1907م الى أن أحيل الى التقاعد سنة 1924م فأصبح لديه الوقت الكافى لتجميع مجموعته، ومن بين هذه المجموعة 1100 قطعة تقريبًا من الزجاج المختوم ومعظمها يشبه النقود وهى ذات كتابات عربية. وفى عام 1942م اضطر جاير اندرسون الى مغادرة مصر بسبب مرضه. واستمرت الحكومة المصرية فى التقليد الذى اقره اندرسون وهو السماح لعامة الشعب بزيارة مجموعته. ولم نكن لننسى ايضا مجموعة الصور المنتقاة التى التقطتها عدسات كاميراتنا والتى ما زلت احتفظ بها حتى استطيع زيارة المكان مرات ومرات من خلال تلك الصور.