قام بالجولة –أحمد أمين عرفات عندما تدخل هذا المكان، لابد وأن تجد نفسك فى حيرة واستغراب شديدين، لأنك ستشعر بأنك دخلته من قبل، متى وكيف، وهذه أول مرة تطأ فيها أقدامك هذا المكان؟ سؤال سأله الكثيرون وربما خرجوا وهم يحملون معهم حيرتهم، لكننا عندما سألنا عن سر ذلك، عرفنا أن هذا المكان شهد تصوير العديد من الأفلام الشهيرة ومنها السكرية وقصر الشوق وبين القصرين وسعد اليتيم والحرافيش وشهد الملكة، ومسلسل الأمام الغزالى، بل إن أغنية « بانو بانو بانو على أصلكو بانو « لسعاد حسنى تم تصويرها فى إحدى قاعاته وهى « قاعة الاحتفالات» التى ما أن دخلناها حتى شعرنا وكأننا نرى السندريلا وهى تغنى وترقص وتنتقل بين جنبات هذا المكان وعيون أحمد مظهر تلاحقها . هذه هى الروح التى شعرنا بها فى متحف جاير أندرسون الذى لا يعرفه الكثيرون، رغم أنه يجاور مسجد أحمد بن طولون، اللهم سوى المتخصصين والسياح الأجانب رغم أن تذكرته لا تتعدى الجنيهين بالنسبة للمصريين، وبرغم جماله الخارجى والداخلى، وقيمته الأثرية الكبيرة فإنه يحفل بتحف لا تقدر بثمن . المتحف من الخارج يبهرك بما يحويه من مشربيات خشبية جميلة، والغريب أنه يعطيك إحساسا بأنك ستدخل حصنا أو قلعة رغم أنه فى الأصل بيت مصرى، كما أنك بمجرد أن تدخله تفاجأ بأن مداخله منكسرة، وهو ما جعلنا نسأل كرم عبد الحميد مدير المتحف عن سر ذلك، والذى اصطحبنا فى جولة داخله فأجابنا، بأن التقاليد الشرقية حرصت على أن تكون المداخل منكسرة حتى لا يرى من بالخارج سكان البيت، كما أنه يعطى لمن بالداخل إذا ما هجم عليهم جنود أو أى مقتحمين فرصة للدفاع عن أنفسهم والاستعداد لهم حيث إنهم سيصطدمون بهذه المداخل المنكسرة، فيصيبهم الارتباك . وعن قصة هذا المتحف واصل كرم عبد الحميد قائلا: هذا المتحف يضم منزلين أحدهما بناه الحاج محمد بن سالم الجزار عام 1041ه 1631م وقد عرف باسم «بيت الكريتلية» وإن كان هناك من العامة من يطلقون عليه "بيت الكريدلية "، لكن الأصح هو الأول نسبة إلى آخر من سكنه وهى سيدة ينتهى أصلها إلى عائلة من جزيرة" كريت"، والثانى أنشأه المعلم عبد القادر الحداد عام 947ه 1540م، وقد أطلق عليه فيما بعد اسم منزل آمنة بنت سالم، وذلك نسبة إلى آخر من امتلكته، ويفصل المنزلين عن بعضهما بعضا طريق ضيق يعرف باسم "عطفة الجامع" ينتهى إلى سلم يؤدى إلى الباب الشرقى للزيادة البحرية بالجامع الطولونى. وكيف أصبح اسمه متحف جاير أندرسون، أجاب مدير المتحف قائلا: جاير أندرسون هو طبيب ضابط إنجليزى برتبة أميرالاى «لواء»، كان من هواة الآثار الإنجليزية يعمل ويعيش فى مصر، وبعد أن أحيل للتقاعد، طلب من إدارة حفظ الآثار العربية تسليمه المنزلين ليعرض بهما مجموعته الأثرية، ولأنه عرف عنه حبه وعشقه للآثار الشرقية بوجه عام والإسلامية بوجه خاص، تمت الموافقة على تسليمه المنزلين بعد أن قامت بترميمهما، ووافقت على إقامته بهما على أن يقوم بإهداء كل ما جمعه من آثار نادرة من مختلف العصور والدول إلى الحكومة المصرية فى حالة وفاته أو مغادرته مصر على أن يطلق اسمه على المتحف، وبالفعل أقام بهما من الفترة من 1939 إلى 1942م ورحل بعدها نتيجة إصابته بمرض شديد، وقبل رحيله قام بتسليمهما، فصدر القرار بتحويل المنزلين إلى متحف يحمل اسمه. كنا مازلنا فى حديقة المتحف تحيط بنا الفسقيات، وبدأنا رحلتنا داخله فإذا بأسقفه عالية بشكل يمنحك الراحة النفسية، كما يحوى قاعات تصل إلى نحو 30 قاعة مليئة بالتحف وقطع الأثاث المتنوعة، التى جلبها جاير من الشام وآسيا الصغرى وإيران والقوقاز وأرمينيا وتركيا، بل يحوى المتحف قطعا فنية من الشرق الأقصى، لاسيما من الصين وبعض قطع الأثاث الإنجليزى القديم الذى يرجع إلى القرنين 17 و18م، علاوة على ما يضمه من الآثار والتحف المصرية، أما الغرف فقد الحمل الكثير منها أسماء البلاد التى تنتمى لها هذه التحف الفنية مثل الغرفة الصينية والدمشقية والفرعونية والبيزنطية والتركية وغيرها كالقاعة الفارسية التى كان جاير أندرسون يتخذها غرفة لنومه وتحوى تحفا فارسية، كما تضم سريرا من الخشب كان يركب عليه ناموسية وبالقرب منه سرير الخادم بجانب مجموعة من الشمعدانات الزجاجية وسجادة تركية. كما توجد قاعة للصور، حيث علقت فوق جدرانها مجموعة قيمة من اللوحات الزيتية والمائية ورسوم بالقلم الرصاص كما تضم صورة لخادم أندرسون النوبى. بحثنا بأعيننا عن صورة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث تردد أن هناك صورة له بالمتحف فلم نعثر عليها، فسألنا مدير المتحف فرد قائلا: بالفعل لدينا صورة للنبى صلى الله عليه وسلم وأخرى لعلى بن أبى طالب وهى صور تم جلبها من إيران، وكانت معلقة على جدارن المتحف، لكننا قمنا برفعها منذ نحو 10 سنوات، ووضعناها فى المخازن خوفا من إثارة الفتنة والبلبلة حولها. يعتبر هذا المتحف هو المنزل الوحيد الباقى من منازل القاهرة فى تلك الفترة والذى لحق به سبيل، مما يؤكد أن الأسبلة كانت تلحق بالمنازل، وعندما دخلنا السبيل وجدنا سقفه الخشبى حافل بالنقوش الإسلامية وتتدلى منه فوانيس ملونة مصنوعة من النحاس ويوجد أسفل السبيل صهريج للمياه الذى كانت تجمع فيه مياه الفيضان للاستفادة منها طوال العام . واللافت للنظر أن المتحف يحوى قاعتين إحداهما مخصصة لجلوس الرجال فى فصل الصيف والأخرى شتوية، وكلتاهما تحتوى على مجموعة من السجاجيد والدولايب الخشبية والأوانى النحاسية ومناضد من الرخام الشفاف نقشت على حروفها آيات قرآنية، وبعض الأمثلة العامية والحكم المأثورة المتداولة بين الناس. ليس هذا فحسب بل على هذا النمط، هناك غرفتان إحداهما خصصها جاير أندرسون للقراءة والأخرى للكتابة، علاوة على مكتبة كبيرة تحوى مجموعة من الكتب القيمة للرحالة الأوروبيين الذين زاروا بلاد الشرق وكتبوا عن الآثار الشرقية . عندما دخلنا قاعة الحريم أو " الحرملك " كما يطلقون عليها، ذكرتنا بما كنا نشاهده فى الدراما والسينما حيث الشبابيك والمشربيات والسقف الخشبى المزخرف والأوانى الخزفية والزجاجية، وما أثار دهشتنا أننا وجدنا أحد الدواليب يحركه مدير المتحف، فإذا به عبارة عن باب سرى دخلنا منه فإذا به يقودنا إلى قاعة صغيرة بها عدة مشربيات جميلة تطل على قاعة الاحتفالات، وعرفنا منه أنها قاعة "المغانى" التى تجلس فيها المغنيات للغناء والطرب، وكذلك سيدات الدار وضيوفهن ليشاهدن ويسمعن ما يدور فى قاعة الاحتفالات. وبذكر قاعة الاحتفالات فهى تعد من أهم القاعات فى المتحف - إن لم تكن أهمها على الإطلاق- وهى قاعة فسيحة تمثل الطراز العثمانى، أرضيتها من الرخام تتوسطها نافورة من الفسيفساء الرخامية، فرشت بالأكلمة التركية الجميلة وهذه القاعة تبعث على الخيال، وربما لذلك اختاروها فى فيلم "شفيقة ومتولى "، لكى تغنى فيها سعاد حسنى أغنيتها الشهيرة " بانو بانو بانو" . ومن الغرف المهمة أيضا غرفة" الملكة"، نسبة إلى إحدى ملكات بريطانيا "آن ستيوارت " "ويغلب الطابع الأوروبى عليها، وإن كانت تضم مجموعة من الخزف التركى والصينى، كما تزين جدرانها الصور الزيتية لكثير من الفنانين المعاصرين. المتحف حافل بالتحف الآثرية، لكن هناك ما يشد الانتباه مثل تمثال لقط أسود "الإلهة باستت"، وكذلك رأس الملكة" نفرتيتى" وهو من الجص الملون، علاوة على طاسات نحاسية من النوع المعروف ب"طاسات الخضة"، وسلطانية من العصر المملوكى عليها كتابة عربية نصها "هنيئا مريئا وسيرحمكم الله من النار بريا"، وكذلك أوان زجاجية للعطور ترجع إلى العصور الوسطى. وخلال جولتنا داخل المتحف لاحظنا بعض القاعات تبدو عليها أنها حديثة، وعنها أكد كرم عبد الحميد بأنه تم إنشاء قاعات حديثة داخل المتحف، وهى قاعة العرائس وأخرى كمعمل للترميم، كما أضفنا كافتيريا للزوار وحمامات حديثة بجانب غرفة مراقبة مزودة بالكاميرات تعمل ليلا ونهار للحفاظ على هذه التحف الأثرية، ولدينا أيضا قاعة الهدايا التى تحوى نماذج أثرية فرعونية وإسلامية نبيعها لمن يريد وفى نفس الوقت تجلب لنا إيرادات نستخدمها فى عملية التطوير المستمرة للمتحف. وبذكر الإيرادات سألناه عن حجم الزوار ونوعيتهم فقال: المتحف متاح للجمهور فى كل الأيام وليس لدينا أجازات ولفترة طويلة كان المتحف يحقق إيرادات عالية، لكن منذ الثورة وحتى الآن قلت هذه الإيرادات، لكننا نلاحظ أنها بدأت تنتعش المناسبات، وإن كنت أتمنى أن يزيد الإقبال من المصريين، خصوصا أن سعر التذكرة لا يتعدى جنيهين بالنسبة لهم، لأن أغلب زوارنا من الأجانب خصوصا الإنجليز الذين يقبلون عليه نظرا لأن جاير أندرسون إنجليزى مثلهم . هل صحيح أن جاير أندرسون أسلم وأطلق على نفسه اسم جابر، حتى إن هناك من يطلق على المتحف اسم جابر أندرسون؟ هكذا سألنا مدير المتحف فأجاب قائلا: ليست هناك معلومات لدينا تؤكد إسلامه، برغم أن هناك لوحات كانت لديه مكتوبا عليها "لا إله الا الله محمد رسول الله"، وكل ما نعرفه أنه ترك مصر بعد أن أصابه مرض عضال ومات بعدها. وعن أحلامه بالنسبة للمتحف قال: أتمنى عودة الأنشطة التى كنا نقيمها قبل الثورة مثل الأنشطة الثقافية والورش التعليمية للتلاميذ وأطفال المنطقة، كما أتمنى أن تتاح لنا الفرصة لكى نعرض كل ما لدينا، فهناك الكثير من المقتنيات فى المخازن، خصوصا أن المكان أصبح ضيقا بكل محتوياته كما لا يمكننا عملا بوصيته أن نخرج بعض هذه المقتنيات لعرضها خارج المتحف. ودعنا هذا المكان الذى يتكون من ثلاثة أدوار يتم الصعود فيها عبر سلالم تنتهى إلى حديقة السطح، ذات السور الخشبى الذى صمم بشكل خاص يضمن حماية من بالبيت إلى جانب المشربيات وكتابات "لا اله الا الله محمد رسول الله" علاوة على مجموعة من الزلع الفخارية والأحواض الرخامية التركية، كما تزين المكان "ساعة شمسية" عليها تاريخ صنعها وهو " ربيع آخر 1273ه سبتمبر 1856م ".