«1» «اللى بنى مصر، كان في الأصل، حلوانى، وعشان كده مصر يا ولاد، مصر يا ولاد، حلوة الحلوات»..بهذه الكلمات الدافئة تغنى المطرب الكبير «على الحجار» في تتر مسلسل «بوابة الحلوانى»، وهى كلمات تعبر عن حب كاتبها المبدع «سيد حجاب»، ومطربها، ل»مصر» وعشقهما لها، ووصفها ب «حلوة الحلوات» خير دليل وأبلغ برهان. ولا شك أن حب الوطن من الإيمان، كما ورد في المأثورات، ولا شك أن كل مصرى وطنى مخلص يتمنى أن تكون بلاده في صدارة الدول إنتاجا واقتصادا وتعليما وتنمية ونجاحا على جميع الأصعدة والمستويات. ولكن شتان الفارق بين الحلم الجميل، والواقع الأليم، فالتمنيات لا تخلق واقعا مثاليا، ولكن الذي يخلقه ويحفظ أسباب بقائه ووجوده واستمراره، هو أن يعمل كلٌ منا، كبيرا كان أو صغيرا بإخلاص، ليس من أجل مصلحته الضيقة فقط، ولكن من أجل مصلحة وطن، تؤكد الإحصائيات والدراسات والأبحاث، المحلية والعالمية، أن فيه عوارا في بنية شعبه الأخلاقية والمعرفية والثقافية والدينية، وهذا ليس جلدا للذات، بقدر ما هو مواجهة صادقة مع أزمات وتحديات، لن تزول بأغان وطنية تزيف الحقيقة، وتلبسها قناعا زائفا، فالحقائق لن تزيفها أقنعة الغش والكذب والخداع.. ولا حتى النوايا الطيبة. كل مصرى مخلص، يتطلع إلى أن «تكون مصر حلوة الحلوات»، ولكن هذا لن يحدث بدفن الرءوس في الرمال، بل بالتصدى بحسم وحزم، لكل من ينال من بلادنا ويريد لها الشر.. مصر لن تكون «حلوة الحلوات»، وهى تتوارى عن منصات التتويج والتميز في مجالات العلم المختلفة، ولن تكون «حلوة الحلوات» وهى تتصدر المراتب الأولى في التصنيفات السلبية، مصر لن تكون «حلوة الحلوات»، وهى طاردة للعلماء والباحثين، فتصبح الأولى عالميا في إقصائهم إلى بلدان تستفيد من قدراتهم وتفيدهم، ولكن سوف تكون حتما «حلوة الحلوات»، عندما تحتفى بالعلماء، وليس العوالم، فتقدرهم حق قدرهم، وتمنحهم ما يستحقونه ماديا ومعنويا. مصر لن تكون «حلوة الحلوات»، ومدارسها تتحول إلى ميادين للشجار والعراك اليومى، ولن تكون «حلوة الحلوات»، وبها 17 مليون أمى، وعشرات الملايين لا يتُقنون القراءة والكتابة، حتى لو تم استوزار بعضهم في غفلة من الزمن، مصر لن تكون «حلوة الحلوات»، وقد صارت طرقها مصائد للموت، وأراضيها الزراعية فريسة لكل من يمتلك البناء عليها، في ظل تواطؤ أولى الأمر، حتى أصبحت البلد الزراعية، الأولى عالميا في التصحر ! «2» «ما شربتش من نيلها، طب جربت تغنى لها، جربت في عز ما تحزن تمشى في شوارعها وتشكى لها، ما مشيتش في ضواحيها، طيب ما كبرتش فيها، ولا ليك صورة عالنهر كانت على الشط في موانيها».. كلمات أخرى تغنت بها المطربة «شيرين»، وهى كلمات نسجت بها مؤلفتها الشاعرة الشابة «نور عبدالله»، حالة نفسية جيدة، وقدمت خلالها بعدا جديدا للأغنية الوطنية، ورغم ذلك تبقى تلك الكلمات مجرد خيال في ذهن المؤلفة والمطربة، فالواقع يقول إن قطاعا كبيرا من الشعب المصرى يعانى إهمالا جسيما، وأصبح أسيرا للحزن والمرض والإهمال الطبى والانفلات الأمني. شوارع مصر لم تعد آمنة حتى نسير فيها بهدوء، ويكفى أن مصر الأولى عالميا في التحرش الجنسى، الذي تحول إلى وباء لن يزول قريبا. لن يردد المصريون هذه الكلمات ويصدقوها، قبل أن تستعيد المدارس هيبتها المفقودة، والشوارع هدوءها المسلوب، والمستشفيات طمأنينتها المهدورة، لن يردد المصريون هذه الكلمات ويصدقوها، قبل أن يعود الطلاب والمدرسون إلى المدرسة، كلٌ منهم يؤدى دوره، ويعود الطبيب إلى المستشفى يؤدى رسالته بإخلاص، ويكون سببا في شفاء المريض، وليس تشييعه إلى العالم الآخر، وتقوم الشرطة بدورها في ملاحقة من يروعون الآمنين والآمنات في الشوارع... وقبل كل ذلك يقتنع المطربون الذي يقدمون الأغانى الوطنية بما يقدمونه، فيكفى أن معظم من يتغنون بتراب مصر، هم الأكثر هروبا من دفع الضرائب، والأكثر حرصا على تجنيس صغارهم بجنسيات أجنبية. «3» «لمّا تلاقى الجِد في إيده حفيده، والناحية التانية السبحة في إيده، الطفل في عينه بريء، وفى وشه إحساس بريء، لسة جايب جلابيته النهاردة، وبينده وسط الطريق ويقول: يا جِده، ويمسك إيده ويشده ويقولوا: أنا عايز أتوضا، ويقول له: يلا نصلى العصر.. يبقى انت أكيد أكيد في مصر»..بهذه الكلمات التي غناها محمود العسيلى وآخرون، بدت الأحلام الكبيرة تتلاشى وصارت ضئيلة جدا، حتى صارت أمور بسيطة جدا تؤكد أنك «أكيد أكيد في مصر»، ولعلها تعكس دون أن يدرك صناعها أن الظروف التي تفرض نفسها على المصريين تجعلهم يتنازلون عن طموحاتهم الكبيرة، ويختزلونها في «جد يصحب حفيده إلى المسجد». «4» ولكن «ريهام الحكيم» لم تيأس، وحاولت أن تخلق طاقة نور صغيرة جدا في فيلم «عسل إسود»، عندما غنت: « فيها حاجة حلوة، حاجة حلوة بينا، حاجة كل مادا تزيد زيادة، فيها إنّ، فيها نية صافية، فيها حاجة دافية، حاجة بتخليك تتبت فيها سنّة سنّة،مصر هي الصبح بدرى، مصر صوت الفجر يدن، سوبيا فول طعمية كشرى كوز بطاطة سخنة جدا، مصر أول يوم العيد عيدية، بمب ولبس جديد فن سيما وغُنا وتياترو»، رغم أن كل بلدان العالم، يؤذن فيها الفجر، ويشرق فيها الصباح، وفيها البطاطا والكشرى والسوبيا! وبدا أن صناع هذه الأغنية أكثر واقعية، وتراجعت مصر من «حلوة الحلوات» في أغنية على الحجار، إلى أن «فيها حاجة حلوة، تتمثل في كوز بطاطا ! وفى كل الأحوال لن تصبح مصر «حلوة الحلوات»، أو «فيها حاجة حلوة»، إلا إذا غادرت مواقعها في جميع التصنيفات السلبية، فلا تكون الأولى في «تطفيش العلماء» و»جذب العوالم»، ولا الأولى في مؤشرات الفساد، ولا الأولى في التحرش بالنساء، ولا الأولى في زيارة المواقع الإباحية، ولا في المراتب الأخيرة في مؤشرات السعادة، ولا ترتيب الجامعات»، مصر يجب أن تكون «حلوة الحلوات وفيها حاجات كتير حلوة»، بالعلم والجد والإخلاص والقضاء على الفقر والإرهاب والتطرف والإلحاد، واحترام شعبها وصونه ورعايته وإسعاده. «5» من مرافعة «أحمد زكى» في فيلم «ضد الحكومة»: «أنا مثال للمحامى الفاسد.. بل أكثر فسادا مما يتصوره أستاذى، أنا ابن لهذه المرحلة والمراحل التي سبقتها، تفتح وعيى مع التجربة الناصرية، آمنتُ بها، ودافعتُ عنها، فرحتُ بانتصاراتها، وتجرعتُ مرارة هزائمها وانكساراتها، هنتُ عندما هان كل شيء، وسقطتُ كما سقط الجميع في بئر سحيق من اللامبالاة والإحساس بالعجز وقلة الحيلة.. تاجرتُ في كل شيء: في القانون والأخلاق والشرف، أنا لا أنكر شيئا ومستعد للحساب وتحمل المسئولية، بل أكثر من ذلك..اعترف أمامكم أننى دخلتُ هذه القضية طامعا في مبلغ تعويض ضخم، لكنى اصطدمتُ بحالة خاصة شديدة الخصوصية، جعلتنى أراجع نفسي، أراجع موقفى كله، أراجع حياتى وحياتنا، اصطدمتُ بالمستقبل..نعم.. صبيٌ من الذين حُكم عليهم أن يكونوا ضمن ركاب أتوبيس الموت، رأيتُ فيه المستقبل الذي يحمل لنا طوق نجاة حقيقيا، رأيتُنا نسحقه دون أن يهتز لنا جفن، نقتله ونحن متصورون أن هذه هي طبائع الأمور، كان لابد لى أن أقف..إن هذه جريمة كبرى، لابد أن يُحاسب من تسبب فيها، إننى لا أطلب سوى محاسبة المسؤولين الحقيقيين عن قتل عشرين تلميذا لم يجنوا شيئا سوى أنهم أبناؤنا، أبناء العجز والإهمال والتردى.. كلنا فاسدون.. كلنا فاسدون، لا أستثنى أحدا.. حتى بالصمت العاجز الموافق قليل الحيلة.. سيدى الرئيس، كل ما أطالب به أن نصلى جميعا، صلاة واحدة لله الواحد، إله العدل الواحد الأحد القهار، لستُ صاحب مصلحة خاصة، وليست لى سابق معرفة بالشخوص الذين أطلب مساءلتهم، ولكن لدىّ علاقة ومصلحة في هذا البلد، لدىّ مستقبلٌ هنا، أريد أن أحميه، أنا لا أدين أحدا بشكل مسبق، ولكنى أطالب المسؤولين عن هذه الكارثة بالمثول أمامكم.. فهل هذا كثير ؟ أليسوا بشرا خطاءين مثلنا؟ أليسوا قابلين للحساب والعقاب مثل باقى البشر؟ سيدى الرئيس، أنا ومعى المستقبل كله، نلوذ بكم ونلجأ إليكم، فأغيثونا.. أغيثونا..والله الموفق».. انتهت كلمات «أحمد زكى»، فهل وصلت الرسالة؟ أشك! على أية حال فاصل ونتابع بأسى أيًا من التصنيفات تتصدر مصر فيها المراكز الأولى.