حتى لا يفهمَني أحدٌ بالخطأ ، أبادرُ فأقولُ إنني لا أقصد ب «جيوش النمل الافتراضي» تلك الحشرات الضّارةَ التي ترتعُ في خرابات الانترنت ، بالرّغم من أنها في خلفيةِ الصورة ، لكنني أعني ، تلكَ التي تتسلّقُ الفضائيات والصحفِ المُباعةِ خلف ستارٍ مُخادع يسمّونه الحريّة ، فتختبئُ في أهراماتِ القمامةِ التي وعدتنا الدولة بإزالتها في إطار حملة «وطن نظيف» ( وربما لم تكن تعلمُ أن «نظيف» يمضي فترةَ نقاهةٍ باستراحةِ طُرة ) ، ومن تلك الأهراماتِ القُمامية تنطلقُ جيوشُ النملِ لتمارسَ دورها الحيويَّ في لدغ الشرفاء وإقلاقهم ومحاولة تلويث سمعتهم وتكديرهم . محمّد البرادعي ... تأخّرتُ كثيرًا في الكتابة عنه ، ولكنَّ عذري في جيبي ، فالموبقات التي ابتلانا بها المجلس العسكري في المرحلة الانتقامية جعلتنا لا نرى إلا السواد ، ولا نرتدي إلا اليأس والإحباط ، بعدَ أنْ حوصرنا بالنماذج السيّئة الوقحة من سارقي الثورة وخائني دماء الشهداء ومحترفي الأكل على كلّ الموائد، أولئك الذين يحملُ كلٌّ منهم ربابته ليعزفَ أمامَ أبوابِ السلاطينِ والولاةِ ومَنْ يحملونَ مفاتيح المناصب والمنافعِ، هؤلاءِ المنبطحونَ المنسحقونَ لا يمانعون في تدجين أنفسهم ودخول الحظائرِ السلطانية بإرادتهم المُدرّبةِ على الخنوع بثقافة العبيد ، فلا يأنفون من أن يبيضوا ويرقدوا على البيض و«يكاكوا» كما تكاكي فراخ كنتاكي قُبيلَ الذبح، وما دامَ البيضُ سيفقسُ نقودًا أو مناصبَ أو حتى حفنةً من الحبوب تكفي لسد أفواههم أو إطعام كتاكيتهم الصغيرة ولو بالحرام وعلى حساب الشرف والكرامة ، فليس لديهم مانع شرعي من الرقود عليه وإقلاقنا بال « كاك كاك كاك»! غيرَ أنني لا أجدُ حرجًا في الاعتذار للدكتور البرادعي ، العَلَمِ المصريِّ المشرّفِ ، «ابنِ الأصول والناس المحترمين» ، ذي الجذور الضاربة في أعماقِ تربةِ الشرف ، والذي لم يكتفِ بشرفِ الأصلِ فأضافَ إليه شرفَ العلمِ وشرفَ الأخلاقِ ، فلم يغتر بالمناصبِ التي سعت إليه ، ولا بالأوسمة والجوائز الدوليّة التي تزاحمت على اسمه ولم يمنحها لنفسِهِ بجرّةِ قلم !! لم يتورّم الدكتور البرادعي عندما حصل على «جائزة نوبل» كما يتورّم الآخرون ، بل سارع بالتنازل عن قيمة الجائزةِ في اللحظةِ التي كان الكثيرون من شاتميه وشامتيه يتسابقون في لحس الأحذية ويفكّرون في كيفية سرقة ما تراه أعينهم التي لا تشبع ، وكان آخرون منهم يتسحّبون ويمشون في شروخ الحوائط خوفًا من عسس أمن الدولة المباركية التي عوّدتهم الزحف على بطونهم كالديدان العمياء ، وزرعت في نفوسهم الرعب ، وجعلتهم والعياذُ بالله يتودَّدون لغير الخالقِ العظيم الذي يدّعون زُورًا وبهتانا وظلمًا وعدوانا أنهم يحملونَ أمانة الدعوة إلى سبيله ودينه القويم ، وديننا القويم بريءٌ من كذبهم وافتراءاتهم! منذ أن عادَ البرادعي إلى مصرَ وهو يعطي الدروس العظيمة في الثبات على المبدأ ، ويبث وقود الثورة في شرايين المتطلعين إلى الحريّة والكرامة، ولم يسمح لإغراءات عصابة الشرّ والتوريثِ المباركية بأن تطويه تحت أجنحتها الكثيرة التي أغوت الكثيرين وبقدرِ ما أعطتهم فقد أسقطتهم من أنظارنا ، ففازوا بالعطايا والمناصب والبرامج التلفازية ورئاسة تحرير الصحف الخربانة ،كما فازوا بعظيم احتقارنا وازدرائنا ، وفي فوضى الإغراءات والتنازلات والانبطاحات جاء البرادعي ليقولَ : لااااااااااااااا ، فأسمع الداني والقاصي ، ودفع الثمن باهظًا من افتراءات لاحسي الأحذية في الهزيع الأخير لحقبة الستينَ عامًا السوداء ، ولم ينخّ ولم يركع ولم يقل : حقّي برقبتي ، كما يقولون ، وبالرغم من كونه أحد أركان الثورة والمحرّضين عليها فإنه لم يسعَ إلى جني الغنائم كما فعلَ الحرامية الذين كانوا مختفين « تحت السرير» أثناء الثورة ، وعندما قاربت السفينة على الرسو قفزوا واعتلوا المقدمة ، وركبوا الثورة .. والدولة .. والمستقبل ، ولأن البرادعي أدمنَ ترديد ال «لاااااااا» بصوتٍ عال ، فإنه لم ينل رضاهم كما لم ينل رضا ساكني طرة ، وأسوأ ما في المقارنة أنّ ساكني طُرة وجيوش نملهم كان معهم الحقّ ، فبرغم أنهم حرامية وخائنون وسرقونا وباعونا في مزاد رخيص ، فإنّ البرادعي كان يهدد مصالحهم غير المشروعة ، وهذا يشبه بالضبط قيام أي حرامي غسيل أو عشش فراخ بقتل حارس الدرك أو صاحب الغسيل أو العشة إذا أدرك أنه سيوقع به ويهدد مستقبله في عالم تسلّق مواسير المجاري !! لكن جيوش النمل التي تتزاحم على كعب حذاء البرادعي الآن ليس معها أيّ حقّ ، فهو الذي ساهم في إخراجها من الشقوق ، وهو الذي نادى بحقّها في الظهور العلني وممارسة حياتها في النور لتأكل السكر وتثقب ثمار الرمان قبل أن تنضج وتقفز على أغصان الثورة وتجرّها إلى جحورها قبل حلول البيات الشتوي !! البرادعي المتعفف الذي رفضَ كلّ الإغراءات ، ونأى بحذائه بعيدًا عن أي حارةٍ بها طفحٌ ذو رائحةٍ كريهة ، ارتفع على الترشح لمنصب رئيس الجمهورية ولم يتاجر بمواقفه ولم يبع لنا المخدّرات الفكريّة ( والتعبير لأحد السبّاكين الذين يأتون لتخريب الأشياء في منزلي ليعودوا بعد ربع الساعة لإصلاحها مرّةً أخرى ) ، كما أنِفَ البرادعي من أن يتلوّثَ تاريخه بالاشتراك في «البتاعة» التأسيسيّة لطبخ الدستور الذي نتكاتف من الآن لرفضه ولو على رقابنا ، كما أعلن موقفه بوضوح وحذّرَ من الاحتيال الدائم للالتفاف على حكم أعظم محاكمنا ، الدستورية العليا التي أضرب لقاطنيها تعظيم سلام باعتبارهم من أهل القانون الشرفاء مثلي ، والذي قضى بمحو مجلس الكتاتني وشركاه ، وها هى المحكمة الإدارية العليا تواصلُ رحلة الصعود والإصرار على الشرف والكرامة واحترام أحكام المحكمة الأم ، وتوجّه صفعةً قاسيةً سيرنّ صداها كثيرا مع صفعة محكمة النقض ، ولم يعد أمام الكتاتنيّة وترزيّتهم سوى اللجوء إلى «محكمة الفن الغنائية» بتاعة عمك حسيب غباشي ، غير أنها لا تفتح إلا في شهر رمضان على موجة إذاعة الشرق الأوسط ، كما أنها أغلقت أبوابها منذ وفاة المبدع العظيم حسيب غباشي ، وأحتفظ ببعض حلقاتها على الجهاز الخاص بي ، لو كانت تصلح لحل أزمة المجلس المنحل فلن أتأخّرَ في ..... تدميرِها من على الجهاز ، لأن المجلس منحل بحكم أعظم محكمة ، وتم تأييده من عُظْمَيين أخريين هما النقض والإدارية العليا ، فكيف أخونُ وأنا رجل قانون ؟ أيها البرادعي العظيم ، أنا مدين لك باعتذارين ، الأوّل لأنني انتقدتك ذات كتابةٍ على مدوّنتي الانترنتّيّة ، والآخر لتأخّري عن نيل شرف الوقوف إلى جوارك من هنا من منصّتي الواقعية على الأرض ، وما أنا إلا قطرة في بحر محبّيك المعترفين بفضلك ، وباعتبارك خير قدوة في هذه الأيام البائسة ، فلا تأبه لجيوش النمل التي لم تصل بعدُ إلى كعب حذائك لا على الأرض ولا في مزابل الانترنت ، تمسّك بكلّ لاءاتك الصارخة ، لعلّك تضيء أكثر وأكثر ، إنّ مواقفك تبصقُ في وجوه الكثيرين الذين فقدوا كلّ ما يملكون من شرفٍ ورجولة ، وقديما قال زميلي الشاعر : لقد ناديتَ لو أسمعْتَ حيًّا .. ولكنْ لا حياةَ لمن تنادي !!