قبل رحيله بعام، وفى جلسة مع الأصدقاء فاجأ الحضور بنبوءته : «يبدو أن المصريين عاوزين يجربوا حكم الإخوان»،ولم يمض كثير من السنين،حتى تحولت النبوءة إلى واقع حى، يراه البعض مظلما،ويعتبره البعض الآخر «فتحا ربانيا». إنه رائد الرواية العربية الحائز على جائزة «نوبل» فى الآداب،نجيب محفوظ، الذى حلت ذكراه السادسة، قبل أيام .. ذهبتُ إليه،وفى طريقى،تذكرتُ عبارة كان يرددها فى سنواته الأخيرة: «أكبر هزيمة في حياتي، هي حرماني من متعة القراءة بعد ضعف نظري» ، بعدما صرنا فى زمن،غدت فيه القراءة،فى عُرف الكثيرين،رجسا من عمل الشيطان،وأصبح الذين لا يقرأون يسخرون ممن يقرأون،وكأنما القراءة «دنس يجب التطهر منه». بدا الرجل،عندما زرته،بسيطا متواضعا ، لين الجانب،لا يعرف الغرور إليه سبيلا، وجدته معتكفا على قراءة ما نشرته الصحف فى ذكراه،فسألتُه سؤالين،أولُهما:أراك مواظبا على هوايتك للقراءة،رغم أن ضعف عينيك،أجبرك على التوقف فى سنواتك الأخيرة،فابتسم،ثم أردف قائلا فى بساطة وعفوية:»وإنت زعلان ليه،ربنا أكرمنى،وبقيت بشوف وأسمع كويس»،قلتُ:»الحمد لله،والله لم أقصد شيئا،ولكنى توقعت أن أجدك على هيئتك التى مت عليها»، فقاطعنى .. والسؤال الثانى؟ قلتُ: هل بلغتك إساءة الإسلاميين إليك بعد وصولهم إلى الحكم؟ فقاطعنى مجددا:»لا تقل إسلاميين،بل متنطعين»،قلت: اهدأ يا سيدى،ألا تخشى أن تتعرض مجددا للاغتيال من أحدهم؟ فعقّب:»يبقوا يقابلونى»،فقاطعتُه من جديد،لو لم يتمكنوا من اغتيالك فقد يعدون قانونا لحبسك، فأطلق ضحكة مدوية،كانت إيذانا بوقف البداية الهزلية لهذا الحوار،وإن لم يعتبرها كذلك،بل قال:إنها بداية تلامس واقعكم،أنا مشفق عليكم،من سيطرة الإسلاميين عليكم وكتم أنفاسكم». استدرجتُه:لماذا؟ فأجاب:لأنهم يكرهون أنفسهم،ومن ثم يكرهون غيرهم،وينفرون من الحرية والإبداع، ويعتبرونهما من الضلالات،التى يجب تغييرها بالكلاشينكوف ! كان بطبيعة الحال أن أتوقف عند إجابته الأخيرة، إذ أعادت إلى أذهانى حادث اغتياله أمام منزله،فقلتُ:لماذا أرادوا قتلك يا عم نجيب؟ انتظر برهة،ثم قال:لأنهم يكرهون الحرية،ويريدون خنقها باسم «الله»،هكذا هم الإسلاميون،يرون أن الله اصطفاهم من بين عباده،ليتحدثوا باسمه،ويصدروا قرارات بالقتل وإزهاق الأرواح،قلتُ:ولكن القيادى فى الجماعة الإسلامية،الدكتور طارق الزمر،قال فى برنامج «زمن الإخوان»،على فضائية «القاهرة والناس»خلال شهر رمضان الماضى «:إن محاولة اغتيال «محفوظ»،لم تكن مبررة،وأثنى عليك ثناء جميلا»،فتبسم عم «نجيب» قائلا: أخيرا،ولكن بعد إيه،إنهم يقتلون الأبرياء،ثم يقولون إنهم تراجعوا عن العنف!!» قلتُ:فى هذا السياق،ما رأيك فى الأزمة المفتعلة،بين الفنانة إلهام شاهين،والشيخ السلفى عبد الله بدر،واتهامه لها بأنها نشرت من خلال أعمالها الفنية،الفسق والفجور،قاطعنى قائلا: تابعتُها بالتأكيد،ولكنّ لى تحفظات عليها، سألتُه:ما هي؟ أجاب: الأول،أن هذا الشيخ،بخطابه الفج،أساء إلى الإسلام،من حيث أراد الإحسان إليه،قلتُ:كيف؟ أجاب: القرآن الكريم،يأمر دائما أتباعه بالتزام الأدب فى الحوار مع الآخر ،وعدم تجريحه وإهانته وتوبيخه ،فالله يقول «وجادلهم بالتى هى أحسن». قلتُ: وما تحفظك الثانى؟ أجاب:بعض الفنانين يسيئون استغلال الفن، فيقدمون أعمالا متخمة بالعرى والابتذال ،تحت اسم الفن،قلتُ: وهل إلهام شاهين من هؤلاء؟ فأجاب:يمكنك مشاهدة أفلامها،مثل: «جنون الحياة» و»سوق المتعة»،لتعرف الإجابة وحدك،دون أن تستدرجنى فى كلام يُساء فهمُه.. قلتُ: لا ضير.. بهذه المناسبة،ما رأيك فى لقاء الرئيس محمد مرسى بعدد من الفنانين،قبل أيام قليلة؟ أطلق عم نجيب ضحكة ساخرة،ثم قال:هذه شكليات،لا يجب أن تؤسسوا عليها شيئا إيجابيا،سألتُه:لماذا؟ قال:الرئيس السابق بدأ عهده بالإفراج عن عدد من سجناء الرأى،الذين حبسهم سلفه،ولكن بمرور الوقت،تحول عهده إلى رمز للظلم والديكتاتورية،ثم إن الإخوان،الذىن ينتمى إليهم الرئيس الحالى،لا كلمة لهم ولاعهد، كما إن الأزمة تكمن فى الفصيل الأكثر تشددا،وهم السلفيون،الذين يعتبرون أنفسهم شركاء فى صناعة القرار وتوجيه الرأى العام،وهؤلاء لن يتم التضييق عليهم،لأنهم يشكلون ظهيرا مهما للإخوان،يمكن الاستعانة بهم فى الوقت المناسب،لتحقيق هدفهم،يجب ان تعلم أن الإخوان جماعة نفعية بالأساس،فهم يؤمنون إيمانا راسخا،بالقاعدة الميكافيللية : «الغاية تبرر الوسيلة». وجدتُ «محفوظ» محيطا بكل تفاصيل المشهد السياسى،الذى فُرض على مصر بعد الثورة،حيث قال:لم أر شعبا بهذه السذاجة إلا قليلا،فئة تقوم بالثورة،وأخرى تجنى ثمارها،قلت: لعلك ترمى إلى أن المصريين قد يقومون بثورة أخرى؟ قال:بالعكس،سألتُه:كيف؟،فأجابنى:لأن الإخوان يسيطرون على مفاصل الدولة،ويعيدون إنتاج الدولة العميقة،ومن ثم فإن سيناريو الثورة وارد،ولكن ليس قريبا،لأن كل التيارات السياسية الأخرى،غير منظمة،واتفقت على ألا تتفق. قلتُ: دعنى سيدى أعود بك إلى الوراء نحو مائة عام،لأسألك كيف كانت البداية والنشأة؟ صمت محفوظ قليلا،ثم قال: أصول أسرتى تعود إلى مدينة رشيد ، لكنى وُلدتُ في حي الجمالية،بمنطقة الحسين بالقاهرة المصرية في 11 ديسمبر عام 1911 ،وفى هذا الحى الشعبى، استلهمتُ أركان رواياتى التي كتبتها فصعدتُ معها إلى آفاق الأدب الإنساني ، وبعد ذلك انتقلتُ إلى «العباسية» و»الحسين» و»الغوريه»، وهي أحياء القاهرة القديمة التي أثارت اهتمامى في أعمالى الأدبية وفي حياتى الخاصة. يتوقف «محفوظ» قليلا،ثم أردف :»كان والدى موظفاً بسيطاً باحدى الجهات الحكومية ، ثم استقال واشتغل بالتجارة وكان لى أربعة إخوة وأخوات، وعندما بلغتُ الرابعة من عمرى ذهبتُ إلى كتاب الشيخ بحيري، ثم التحقتُ بمدرسة بين القصرين الابتدائية، وبعد أن انتقلت الأسرة عام 1924 إلى العباسية ، حصلتُ هناك على شهادة البكالوريا من مدرسة فؤاد الأول الثانوية،ثم حصلتُ بعدها على إجازة في الفلسفة عام 1934». قاطعتُه:لكن متى اجتذبتك نداهة «الأدب»؟ أجاب:»أثناء إعدادى لرسالة الماجستير وقعتُ فريسة لصراع حاد بين متابعة دراسة الفلسفة وميلى إلى الأدب بعد قراءات كثيرة لكبار الكتاب مثل:عباس العقاد وطه حسين «.. قلتُ:دعنا نتذكر معا الخطوات المهمة فى حياتك،فمثلا متى بدأت تكتب القصة القصيرة؟ أجاب بعد تلعثم: أذكر أنى بدأتُ كتابة القصة القصيرة عام 1936 ، لكنى عملتُ بعدها في عدد من الوظائف الرسمية ،فعملتُ سكرتيراً برلمانياً بوزارة الأوقاف من 1938 حتى 1945 ، ثم انتقلتُ للعمل بمكتبة الغوري بالأزهر، ثم نُقلتُ للعمل مديراً لمؤسسة القرض الحسن بوزارة الأوقاف حتى عام 1954 وتدرجتُ في مناصبى فعملتُ مديراً لمكتب وزير الإرشاد، ثم مديراً للرقابة على المصنفات الفنية في عهد وزير الثقافة ثروت عكاشة، ثم مديراً عاماً لمؤسسة دعم السينما، ثم مستشاراً للمؤسسة العامة للسينما والإذاعة والتليفزيون ، ثم رئيساً لمجلس إدارة المؤسسة العامة للسينما ،إلى أن أحلتُ إلى التقاعد في عام 1971 وبعدها انضممتُ إلى مؤسسة الأهرام وعملتُ بها كاتباً. قلتُ: تعال نقفز قفزة نوعية ،لأسألك عن علاقتك بجماعة الإخوان المسلمين؟ التفت عم نجيب إلىّ،ثم أردف: حاول صديقى «عبد الحميد جودة السحار» إقناعى بالانضمام إلى الجماعة ، وحدد لى بالفعل موعدًا مع مؤسسها «حسن البنا»، ولكنى تراجعتُ، لأنى كنتُ أنفر بشكل فطرى من التنظيمات المغلقة، التى تقترب فى بنائها من الفاشية، وما زلتُ مقتنعا حتى يومنا هذا بأنها تنظيم فاشي وانتهازي. قلتُ: وهل موقفك لم يتغير من الجماعة،بعد انضمام صديقك سيد قطب إليها،والذى صار أبرز منظريها فيما بعد؟ قال:بالتأكيد ، لم يتغير، و»على فكرة»،»قطب» كان شاعرا وناقدا وأديبا وروائيا،وكتب رواية ،صاغ خلالها، سيرته الذاتية وشرح فيها معاناته النفسية بعد قصة حب فاشلة تخللتها لقاءات غرامية ،واستخدم فيها لغة «بورنو جرافية». قلتُ: أشعر بمرارة فى كلامك عندما عرجنا على «قطب»،لماذا؟ أجاب : قصة «سيد قطب» مريرة وعجيبة،فهذا الرجل بدأ حياته ملحدا،ودام إلحاده 11 عاما،ثم أنهاها بتشدد وتطرف بغيضين. قطع حوارنا حضور النادل حاملا القهوة ل»عم نجيب»،الذى ارتشف من فنجانه رشفتين،على ما أذكر،ثم التفت إلىّ قائلا:بالفعل ألحد «قطب» 11 سنة كاملة،ودافع عن إلحاده،وبرز ذلك فى روايته «أشواك»،التى حاول أن يتبرأ منها بعدما التحق بقطارالإخوان، كما أثنى كثيرا على رواية «قنديل أم هاشم»،التى كتبها «يحيى حقى»،وكتب عنها نصا :إنه»استلهم أعماق الطبيعة المصرية، وهو يصور الإيمان بكرامات الست أم هاشم، وما يتصل بها من عقائد وأساطير»،وأذكر أنه اعتبر روايتى «زقاق المدق»، قصة الصراع بين الروح والمادة، بين العقائد الدينية والخلقية والاجتماعية والعلمية، بين الفضيلة والرذيلة، بين الغنى والفقر، بين الحب والمال فى مضمار الحياة». قاطعته:ومتى التقيتم آخر مرة؟ أجاب «محفوظ»:» كان هذا فى عام 1964،على ما أذكر، حين ذهبتُ لزيارته ، عقب خروجه من السجن بعفو صحى، واذكر أن «جمال الغيطانى»،أمد الله فى عمره،كان معى،و تحدثنا يومئذ فى الأدب ومشاكله، وعن الدين والمرأة والحياة، وكانت المرة الأولى التى ألمس فيها بعمق مدى التغيير الكبير الذى طرأ على شخصية صديقى القديم وأفكاره، لقد رأيتُ أمامى إنسانًا آخر، حاد الفكر، متطرف الرأى، يرى أن المجتمع عاد إلى الجاهلية الأولى، وأنه مجتمع كافر لا بد من تقويمه بتطبيق شرع الله، انطلاقًا من فكرة «الحاكمية»، لا حكم إلا لله، وسمعت منه آراءه، دون الدخول معه فى جدل أو نقاش ، لم يكن قطب يشبه صديقى القديم الذى عرفته فيه، وأردت أن أكسر حدة الصمت الثقيل، فقلتُ دعابة عابرة، وافترضتُ أن أسارير «قطب» وضيوفه من ذوى اللحى، ستنفرج وسيضحكون، ولكنهم نظروا إلىَّ شذرًا، ولم يضحك أحد حتى قطب نفسه، وعندها غادرت البيت صامتًا، وشعرت بمدى التحول الذى طرأ عليه». قلتُ:وبناء على ذلك،كيف ترى مستقبل مصر تحت حكم الإخوان؟ فأجاب:ليس من الإنصاف إصدار أحكام مطلقة ومتسرعة، ولكن إذا كانوا لايزالون متأثرين بفكر سيد قطب،فعلى مصر..السلام!! قلتُ:دعنى سيدى نختم حوارنا ببعض الأسئلة القصيرة، قال:تفضل،هات ما عندك،قلتُ:ماذا تقول عن الحرية؟ أجاب بطلاقة: هي ذلك التاج الذي يضعه الإنسان على رأسه ليصبح جديرا بإنسانيته. قلتُ: والعقل الواعى؟ قال : هو القادر على احترام الفكرة حتى ولو لم يؤمن بها،قلتُ :والأدب؟ قال: الأدب ثورة على الواقع وليس تصويراً له،قلتُ:والنظام الأنسب للحكم؟ قال: النظام الديمقراطي هو أفضل نظام لحياة الإنسان، حتى لو شابته بعض الأخطاء، قلتُ: والمرأة ؟ قال :المرأة أهم رابطة تربطنا بالحياة،ولكن عندما تغضب ،تفقد ربع جمالها، ونصف أنوثتها ،وكل حبها.