كالقابض على الماء حين تبحث عن سيرته الشخصية؛ فلا تكاد تمسك بطرف حكاية إلا وتجدها مبتورة تناثرت بقاياها في مهب الريح فتعود بخفي حنين ليس معك إلا مجموعته الشعرية التي ذابت فيها حكايا الشخص مع موجات الشعر الهادرة التي اجترحت غشاء السائد والممجوج وعلقت ما هو تقليدي وموروث على مشجب مهمل في زاوية النسيان، ففي ثنايا شعره يقول كل شيء عن نفسه وعن الآخرين وعن العابرين حياته، لكنه يحذرك قبل أن تقرأه بأنه عليك أن تتبع بوصلة أو نجمة في الأفق كي لا تضل الطريق وتخترق أسلاكه الشائكة مسام جسدك. «أيّ حلم.. وكلّنا على قارعة الطريق نلملم انهيار الوجوه»، اختار وديع سعادة منفاه الاختياري في أستراليا ورحل ككل اللبنانيين الذين وجدوا أن وطنهم صار كقدر يفور، وأن لبنان ليست استثناء من الخريطة العربية التي بات يحدها شرقًا معتقل «السلمان» في صحراء العراق وسجن «القنيطرة» غربًا في فيافي المغرب وعلى حدودها الشمالية سجن «طرة» في مصر وجنوبا معتقل «كوبر» السوداني، فيقول «بين هذه الجدران أمضيتَ حياتك. وُلدتَ في الزاوية، وأقصى رحلة كانت من الجدار إلى الجدار»، «إنهم يتساقطون، الواحد تلو الآخر، المتشبثون بالإقامة. يتساقطون بأوطانهم التي صارت وهما، بانتماءاتهم التي صارت كذبا». موهبة مكتملة تنهل من نبع الحياة سكنت جسد وديع سعادة ولم تنل حقها من القراءة النقدية ربما لأنه ولد في عصر صار الشعراء موصومين فيه بالعار بعد أن طرق غالبيتهم باب السلطان يتسابقون على لعق الفتات، وإذا ما كان قدر لهذا الجسد أن ينبت في زمن سابق لكان رائدًا وأيقونة لكنه الحظ الرديء ما أوقعه في ليل اعتمت فيه النجوم ومات الرواد كمدا، «المتعبون في الساحة، وجوههم ترقُّ يومًا بعد يوم، وشَعرهم يلين في هواء الليل والأضواء الخفيفة، وحين ينظرون إلى بعضهم ترقُّ عيونهم أيضًا إلى درجة أنهم يظنون أنفسهم زجاجًا.. وينكسرون». من «المساء ليس له أخوة» أول دواوينه غرد سعادة على لحن لم تألفه الأذن العربية فاستصعبته فكانت على قلوبهم غشاوة وفي آذانهم وقر، لكنه ظل يغرد ويغرد إلى أن اخترق قلوبهم وأسماعهم واستقر في الوجدان وتوالت الدواوين فكانت «المياه المياه – 1983»، «رجل في هواء مستعمل - 1985»، «مقعد راكب غادر الباص - 1987»، «بسبب غيمة على الأرجح - 1992»،«محاولة وصل ضفتين بصوت - 1997»، «نص الغياب - 1999»، «غبار - 2001». ولم ينقطع الوحي وما زال صوت السماء موصولًا بجسد عاشق يذوب في الغياب فيقول: «الذاكرة تعيق الراغبين في الموت. وتجعل الراغبين في الحياة موتى فلندفنها إذن، لندفن الذاكرة ونحن نغنّي، إنها حفلة سخيفة في إية حال، ولكن بما أننا وصلنا، فلنغنِّ ونرقص ثوانٍ، قد نكون فيها جميلين لكن أجملنا سيبقى: «الغائب».