عقب انفراد «فيتو» بتفاصيل لقاء بديع ومبارك وآخرين في المركز الطبي العالمي اتصلت بيٍّ مذيعة بال «بي بي سي», وسألتني .. وكان سؤالها يبدو وكأنه اتهام: يتردد أن من يقف وراء تمويل جريدة «فيتو» هو رجل الأعمال نجيب ساويرس؟ .. بهدوء قلت: هل لديك مشكلة مع ساويرس؟ قالت لا .. قلت ولا أنا .. وأردفت قائلا: تمويل ساويرس ل«فيتو» ليست تهمة ننفيها, ونحن نتمنى أن يفكر الرجل جديا في الاستثمار في «فيتو» ف«ساويرس» رجل أعمال ناجح .. ووطني غيور .. مخلص في أدائه الاجتماعي, يخوض واحدة من أهم معارك الوطن علي أرضه .. يطالب بالمواطنة, ونحن نطالب بها ..يري أن مصر تستحق أفضل من ذلك, ونحن نري رؤياه .. يؤمن بالمساواة في الواجبات, والحقوق, ونحن لا نختلف معه في ذلك. تذكرت يومها أول لقاء جمعني بالمهندس نجيب ساويرس, بمكتبه القديم بميدان سفنكس .. مازلت أذكر مديرة مكتبه في ذلك الوقت بحجابها المتأنق, وابتسامتها البسيطة, وملامحها المصرية الدقيقة .. وعلى باب المكتب لوحة بطول الباب لطفل فلسطيني في مواجهة دبابة إسرائيلية, وفي يمينه حجر متخذا وضع القصف في واحد من أهم مشاهد الانتفاضة المباركة .. على اللوحة بخط عريض عنوان قصيدة الراحل العظيم محمود درويش ..»لن تمروا». حكي لي يومها الشاب نجيب ساويرس ما حدث داخل شركة أوراسكوم عندما كان يمر على الموظفين, في مواقعهم, ومكاتبهم, وقد راعه أن تحولت شركته فجأة إلى ساحة ساخنة لعراك طائفي, كانت أهم مظاهره أن الشباب المسيحيين تصوروا أنفسهم داخل شركة تحمل ديانة بعينها, وعلي الطرف الآخر كان علي شباب المسلمين أن يردوا علي نداء الواجب .. المسيحيون علقوا الصلبان, وصور المسيح ورد الطرف الآخر بتعليق آيات من القرآن الكريم.. فجأة وجد نجيب ساويرس نفسه أمام موقف جديد علي تربيته, وتنشئته؛ فقد عاش طفولته بين جدران لا تعرف هذا التقسيم, فأصدقاؤه من المسلمين ربما ضعف أصدقائه من المسيحيين .. ببساطة أصدر تعميما يقول «شركتنا مصرية, وكل من فيها مصري .. دينه في قلبه, وبينه وبين ربه .. دينه في المسجد, والكنيسة, وعلي كل من يضع رمزا دينيا علي مكتبه, فليرفعه فورا, وإلا يعتبر نفسه مستقيلا أو مفصولا»!!! لنجيب ساويرس صديق مسلم يتزاوران كثيرا .. تقول أم الصديق المسلم لنجيب: آه يا ابني كم أحبك .. «يا سلام لو كنت مسلم» .. يضحك نجيب وهو يقول لها ولدت مسيحيا, وسأعيش مسيحيا, وسأموت مسيحيا, ويبادر بسؤالها: تقدري تغيري دينك يا أمي؟ فترد: أبدا يا بني فيقول ولا أنا!!. في بلاد تختزل فيها المعارك في كلمات, ويختزل فيها الناس في أوصاف, وتختزل المشاهد في صور, لا تطمئن أبدا إلي حقيقة, يعلنها حاكم, أو محكوم ..تبقى الحقيقة دوما أبعد مما تتصور إذ لا يمكن أن نلخص حربا.. بأنها نصر أو خسارة، دون النظر إلى المسافة بين المكسب والخسارة, ولا يمكن أن نكتفي باختصار إنسان بأنه غبي أو ذكي,غني أو فقير, خفيف الظل أو أنيق, ليصبح لدينا تصور كامل حوله. والذين يختزلون نجيب ساويرس في كونه مسيحياً إنما يريدون أن يسيئوا إليه من حيث أساءوا إلي أنفسهم, فقد ولد الرجل مسيحيا, مثلما ولدوا مسلمين.. واختزال ساويرس في خانة الديانة, هو اختصار لتاريخ عائلة مصرية, واستبعاد لاسم وحيثية, قد تفرض علينا مطالبة مستخدمي الكهرباء أن يعودوا إلى مشاعل الزيت لأن مبتكر المصباح لم يكن سلفيا, ولا إخوانياً.. وإذا ما سرنا علي نحو ما يسيرون عليه, واختزلناهم في كونهم مسلمين, فما الفضل الذي أضافوه إلى الإنسانية, وقد وجدوا أنفسهم بحكم الولادة مسلمين, أي أنه لا فضل لهم, كما أنه لا فضل ل«ساويرس» في كونهم مسلمين أو كونه مسيحيا. ولعلي أكون قريبا من الحقيقة, إذا قلت إن مشكلة نجيب ساويرس, ليست في كونه مسيحيا, ولا في محاولات طيور الظلام اختزاله,علي هذا النحو, وإنما قضيته الرئيسية أنه يري نفسه وطنيا, غيورا على بلاده, أكثر من غيره, أو مثل غيره, ومن ذات المنطلق فإنه لا ينحني إزاء اتهام, ولا ينكسر أمام محاولة تسلط, لأنه باختصار, وعلي نحو خاطئ يري نفسه مصريا له حقوق المواطن المصري في الاعتراض, والاحتجاج, ورفع الصوت, بينما يري رفاقنا المتأسلمون - كما يصفهم رفعت السعيد- أن مصر تجمع بين شعبين أحدهما بشرطة والآخر بدون .. بدون شرطة, وبدون حقوق, وبدون صوت, أضف إلي ذلك أنهم بدون أمل في دخول الجنة بعد أن أعلنوا مؤخرا عن احتكارها مثلما احتكر أحمد عز الحديد. ولأن ساويرس في موقع القمة من السذاجة, فإن خياله قد أوهمه أنه يستطيع أن يحلم بحزب سياسي ليبرالي, وأنه قادر على أن ينافس مُلاك الدنيا, وأصحاب الآخرة, في صنع مستقبل مصر, برغم أنه حسب أعرافهم مجرد ساكن قانون جديد يمكن إنهاء عقده, وتهجيره, إلى وطن يقبل وجود مسيحيين علي أرضه, كما يحاول البعض أن يفعل بمطاردته بسلاح الجنة والنار.. باختصار تظل التهمة الحقيقية الملتصقة بنجيب هي أنه لازال «بريء» سياسيا, ولا يدري أنه إن لم يكن ذئبا ستأكله الذئاب. وعلى هذا النحو تصبح مطاردة ساويرس جهادا في سبيل الله, وطرده من الوطن انتصارا لإرادة السماء, وتطهير الأرض منه إعلاء لكلمة الحق, وليس بعيدا أن يبدأ تحرير الأقصى بمطاردة آل ساويرس لما فعلوه في وطن يأويهم, ويحملون جنسيته حتى إشعار آخر.. من أجل ذلك اختار خصومه السياسيون أن يضربوه في مقتل, عندما خلطوا بين الخصام السياسي, ولي الذراع الاقتصادي, فكلما اختلف معه نفر من إخواننا –إياهم- فإنهم يختارون أقصر طرق الضرب تحت الحزام .. أيها الناس .. أيها المسلمون .. قاطعوا موبينيل .. قاطعوا نجيب ساويرس عدو الإسلام والمسلمين. ويندفع البسطاء خلف النداء الجاهلي لعلهم ينصرون الإسلام ضد الكفرة والمشركين، ولعلهم بمقاطعتهم موبينيل أو نجيب ينصرون الإسلام في فلسطين، وينصرونه في الشيشان والبوسنة، وليس بعيدا أن نعيد السودان مرة أخرى لتصبح دولة واحدة.. يتلقى نجيب الضربة تلو الأخرى ولسان حاله يقول: لن ألين.. ولن أنكسر أمام دعاوى الظلام.. ويكمل مشواره مدافعا عما يتصوره صحيحا دون أن يبالي بما ينتظره في مستقبل يعارك فيه وحيدا بعد أن جرى القوم في سباق التقرب إلي حاكم جديد .. صحف تتحول وفضائيات تتقرب، وأقلام تبيع الهوى الشرعي في حانات كل جماعة تستتر بكتاب سماوي لغرض أو مصلحة. وبعيدا عن اللعبة السياسية التي يمارسها نجيب وتدفع العائلة بأكملها ثمنها فإليكم جرائم آل ساويرس في مصر؟ برغم أن الطفل أنسي ساويرس نشأ في بيئة قانونية حيث كان والده نقيب محاميي سوهاج –لا تزال عمارة ساويرس الشهيرة في مدخل سوهاج- إلا أنه تخرج في كلية الزراعة، وكان الأول علي دفعته ورفض الالتحاق بسلك التدريس في الجامعة، واختار طريقا عمليا يغاير دراسته، فأنشأ شركة مقاولات خاصة بشراكة مع صديق له وكان اسمها «لمعي يعقوب وأنسي ساويرس للمقاولات» .. كان ذلك في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي. حقق أنسي وشريكه نجاحات متواصلة وقد كان شريكه لمعي يعقوب قصة نجاح مبهرة؛ فلم يكن الشاب في ذلك الوقت قد أكمل تعليمه حيث كان حاصلا على البكالوريا، ولم يتوقف عند نجاحه العملي بل أصر علي استكمال تعليمه في القسم الحر بمدرسة الفنون والصنايع - جامعة عين شمس فيما بعد- ليحصل علي بكالوريوس الهندسة، واستمر نجاح الشركة حتى عام 1961م. وصل قطار التأميم إلي شركة الشابين الواعدين فأخذ منهما ما جنياه منذ بدء الشركة .. لم ينكسرا وظلا يقاومان الجمود والاستسلام إلى أن قام العقيد معمر القذافي بانقلابه في الشقيقة ليبيا؛ فآثر أنسي ساويرس السفر إلي طرابلس وهناك بدأ حياة جديدة من العمل المتواصل. لم يكن ساويرس الأب مشغولا بتكوين ثروة يحرسها، أو تشغله عن مشروعه، الذي ظل يحلم به طوال عمره، وهو الاستثمار في تعليم أبنائه الثلاثة، نجيب، وسميح، وأصغرهم ناصف، في الوقت الذي كانت بيوت الصعيد في أغلبها تتوسع في بناء عائلات ثرية، كان أنسى ساويرس يسعى لإلحاق أبنائه بالمدرسة الألمانية حتى لو كلفه الأمر في ذلك الوقت الاستدانة.. آمن الأب بأن الاستثمار الأفضل هو في تعليم الأبناء الثلاثة، فأرسل نجيب لدراسة الهندسة في سويسرا، وسميح لدراسة الهندسة في جامعة برلين، وآثر أن يكمل صغيرهم تعليمه في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وظل الأب بالنسبة لهم هو الرمز والقدوة والمعلم برغم أنه ربى فيهم الشخصية الاستقلالية؛ لدرجة أنه آثر أن يوزع عليهم ثروته كلها وهو بينهم. كانت مصر زهرة تتفتح بعد انتصار أكتوبر المجيد، ويسعي القائمون عليها إلي بناء ما هدمه الدهر من ويلات الحروب، ووجد أنسي ساويرس نفسه مدفوعا للعودة إلى الديار التي لم تفارقه أصلا .. عاد أنسي للقاهرة، وأنشأ شركة للمقاولات تحت اسم الشركة المصرية – السعودية، ثم ابتني عمارة العجوزة لتكون مقرا لشركة أوراسكوم الجديدة، والتي أصبحت فيما بعد واحدة من كبريات شركات المقاولات علي مستوى العالم، وكان في نفس الوقت شريكا بمستشفى السلام بالمهندسين، وبعدها أضاف إلى نشاطه العمل في التوكيلات التجارية.. عندما عاد الشاب نجيب بعد حصوله علي بكالوريوس الهندسة من ألمانيا، رفض في البداية أن يعمل مع والده، وخاض تجربة ناجحة مع زميل له في الاستيراد والتصدير، وحققا نجاحات دفعت الأب لأن يفاتح ابنه برغبته في أن يتحمل مسئولياته تجاه العائلة والشركة. وافق الابن وكانت أوراسكوم تنمو، وتكبر، وتتوسع، فأضاف لها الشاب نجيب دماء جديدة جعل اسمها ينافس أسماء شركات كبرى في مجالها، وعندما تخرج سميح ومن بعده ناصف انضما إلي فريق العمل، وتم تقسيم العمل فيما بينهم .. تخصص نجيب في الاتصالات وسميح في السياحة وناصف للصناعة -مثل الأسمنت والأسمدة- والمقاولات والتجارة، وهو يعد أمهر أشقائه؛ لتفرغه للعمل ولا شيء آخر غير العمل المتواصل. لم تكن الأم بعيدة عن هذا النجاح المتواصل، فهي السيدة يسرية لوزا سيكا، التي تنتمي إلي واحدة من أعرق عائلات «مير» بمركز القوصية بأسيوط، وشقيقها الأستاذ الدكتور فتحي لوزا سيكا صاحب مستشفي بهمان للأمراض النفسية ، وهو المستشفى الأكبر في مجاله في الشرق الأوسط. فضلت الأم الإشراف علي الدور الاجتماعي لرأس المال في شركاتهم، وأولت اهتماما كبيرا بالطبقات المهمشة في المجتمع، وقدمت واحدا من أكبر مشروعات تدوير القمامة بمناطق الزبالين بالمقطم، وأنشأت المدارس هناك، واستطاعت أن تغير النمط الحياتي للعاملين بهذا المجال، كما أنشأت كلية للتمريض بالجونة يدرس فيها خبراء أجانب؛ إيمانا منها بأن هذا التخصص أصبحت الحاجة إليه ملحة بدرجة كبيرة، وتدرس فيه الطالبات ويقمن بمدينة جامعية مجهزة على أعلى مستوى، وقد أنشأت الكلية بالتعاون مع جامعات أمريكية وإنجليزية مع وجود مستشفي للتدريب بنفس الموقع. بعد النجاح الذي حققته الأم في مشروعاته، اندفع سميح لإنشاء كلية للتكنولوجيا بالتعاون مع جامعة برلين؛ لإيمانه بأن مصر بحاجة إلى هذا التخصص وتمارس الكلية دورها التقدمي من داخل الجونة أيضا.. ومن جرائم آل ساويرس في مصر أيضا، أنهم أنشأوا مؤسسة «ساويرس فاونديشن» وهي المؤسسة التي توفد عددا من الطلاب المصريين المتميزين للتعليم بدول أوربا وأمريكا، حيث تتكفل المؤسسة بكل ما يخصهم طوال فترة تعليمهم بالخارج، أضف إلي ذلك اهتمام العائلة بالإبداع الأدبي والسينمائي، حيث تخصص له جائزة سنوية باسم «جائزة مؤسسة ساويرس».