العمدة عبد الستار جالسًا على أريكته الأثيرة في دواره السري بالجزء الغربي المهجور من الترعة قبلي الكفر، وفي يده مبسم الشيشة التي علاها حجر مترع التكريس بمعسل قص البرج الحامي وقطعة مزاج أصلية تنضح زيتا يضبط عليها جمرات النار الصغيرة، ويضغطها بحرفية عالية كبيرة، ويد ماهرة خبيرة، خفيره الخصوصي ملواني الجعّر قائلا: شد كده بالراحة يابا العمدة واظبط دماغك العالية وادعي لي.. العمدة وقد انفرجت أساريره وتشعشعت بالدخان الأزرق تلافيف مخه ونخاشيشه: الله عليك ياض يا ملواني لما تكون رايق.. أما حتة مزاج إكسرا بصحيح.. وفجأة يدخل شيخ الغفر وشيخ البلد مقتحمين عليهما الدوار السري دون إحم أو دستور والشرر يتطاير من عينيهما ليبادره شيخ الغفر متحدثا بصوت عالي ووجه يتميز غيظا قائلا: إلا قول لنا يابا العمدة عبد الستار إيه حكاية الكلام البارد الماسخ اللي داير ورايح جاي في البلد ده طول النهار !! الموضوع ده صحيح وبحق وحقيقي ولا دي حركة ملعوبة من حركاتك الجامدة ونسيت تقول لنا عليها ؟!! ينظر إليهما العمدة عبد الستار من طرف عينه علامة على عدم الاكتراث ويبادر بأخذ نفس دخان عميق يحبسه في صدره قليلا ثم يطلقه على مهل في وجهيهما قائلا: كلام إيه بالزبط يا جدع منك ليه ؟ م الكلام كتير في البلد والحكايات أكتر والكفر كلاته ما وراهوش غير اللت والعجن طول النهار.. يستلم شيخ البلد دفة الحديث هذه المرة قائلا: لا.. الموضوع ده كبير، وما فيش زيه يا حضرة العمدة... قال جنابك صحيح هاتعمل شوية العيال الصيع خرجين الكليات العلمية ومعلمينهم اللي كانوا شغالين ومهمين جدا في بلاد بره وجم الكفر عشان يفيدوه من وجهة نظرهم البايظة طبعا، وبقالهم سنين متلطعين ع القهاوي لا شغلة ولا مشغلة بعد ما تعبنا كتير عشان نعرفهم مقامهم الحقيقي ونفهمهم انهم ما لهومش لأزمة وعايشين عالة على المجتمع ونقص السنتهم اللي عايزة قطعها من لغاليغها ونحذر الناس من السماع ليهم والقعدة معاهم.. بقى عايز بعد ده كله تعملهم مستشارينك يا عمدة وتاخد بكلامهم اللي انت نفسك كنت بتحاربه في يوم من الأيام ؟!! ينظر إليهما العمدة ببرود تام مفتر الثغر عن ابتسامة صفراء يعرفانها جيدا: وماله يا جدعان ! إنتم ما تعرفوش إن العلم نورن ولا إيه ؟!! وإن إحنا في مرحلة جديدة يلزمها أفكار جديدة ورجالة جديدة برضه.. شيخ الغفر وشيخ البلد في نفس واحد: طيب واحنا يا عمدة هايبقى مصيرنا إيه بعد طول خدمتنا معاك ؟!! هي دي آخرتها برضه ؟!! العمدة شارحا لهما الأمر بعينين يملؤهما الدهاء: يا جماعة انتم الرجالة الوطنين المخلصين اللي كل الجماهير العريضة من أهالي الكفر هايقولوا ولا يوم من أيامكم.. أومال ! لا وكمان هايروحوا لكم لحد بيوتكم يترجوكم ترجعوا تاني لمناصبكم وأنتم هاتتبغددوا عليهم وماترجعوش أبدًا غير بشروطكم، ودا طبعًا بعد ثبوت فشل جميع الأفكار العلمية اللي فالقين البلد بيها شوية العيال الصيع اللي أنتم عارفينهم كويس، وفاكرين نفسهم جايبين التايهة وعمالين ينفخوا في ودان الناس لحد ما هايصدقوهم ويعملوا ثورة علينا فهمتم بقى أنا عملتهم رجالتي في المرحلة دي، وببعدكم مؤقتا عن المشهد ليه ؟ عشان أفضيكم خالص لإفشال مشروعهم العظيم، وبعدين مش عيب عليكم بعد العشرة الطويلة دي تشكوا في يا وحشين ؟! ايش حال إما كناش دفنينه سوا من زمان !! يستريح قلب شيخ الغفر وشيخ البلد لكلام العمدة صديقهما القديم ويجلسون سويا في كركرة وانسجام، وبينما هم كذلك كان المدرس عبد النعيم مدرس الحساب في مدرسة الكفر الثانوية بنين يسأل تلميذه هاني الملواني، قائلا: بص يا عم هاني ركز معايا في المسألة دي عشان أنا عايز أختبر دقتك في الحساب وتركيزك العالي وسرعة إجابتك.. هاني الملواني وقد بدى عليه الاهتمام الشديد: اتفضل يا أستاذنا.. الأستاذ عبد النعيم بسرعة فائقة: بص يا سيدي انت أبوك قرر يجوزك بس ظروفه كانت على قده خالص ومع ذلك كان مضطرًا يجوزك عشان انت واد ملعب وعامل مشاكل كتيرة مع البنات وأهاليهم في الكفر – مثلا.. مثلا يعني – قام مستلف من عمك اللي في السعودية عشرة آلاف جنيه، ومن عمتك اللي في الكويت سبعة وثلاثين ألف جنيه وثلاثمائة دينار، ومن جوز عمتك الثانية اللي في الإمارات 22 وعشرين ألف درهم ومائة وخمسين فلسا، وقام قريبكم اللي في أمريكا سمع بالموضوع قام باعت لكم سبعة آلاف دولار هبة لا ترد، يبقى انت معاك كدة كام ألف جنيه مصري يا حبيبي عشان أبوك يفرح بيك ويتمم لك موضوعك على خير ؟ احسب بسرعة وقول لي النتيجة حالا عشان انت راجل كبير وفي علمي رياضة وعايز تطلع مهندس كبير.. ها كام الناتج يا عم هاني ؟!! هاني الملواني ببرود شديد: ولا مليم أحمر يا عبد النعيم أفندي.. عبد النعيم أفندي وقد كاد عقله يطير منه، وبعد وصلة سباب معتبرة للإهمال وعدم المذاكرة: إزاي ولا مليم أحمر يا بتاع انت ؟!! اتنيل أقعد على جنب مع زمايلك الخايبين.. انت حمار وما بتعرفش تحسب.. هاني الملواني بابتسامة تنضح برودا ويملؤها الاستفزاز: لا يا أستاذ عبد النعيم أنا بعرف أحسب كويس جدًا وحياتك.. بس للأسف حضرتك اللي ما تعرفش أبويا !!!