هو كاتب مثير للجدل، عاش حياته بالطول والعرض، كانت له - ولا تزال وهو يلامس عامه الثانى والتسعين - صولات هنا وجولات هناك، معارك وأزمات، اقتحم حقول الألغام بآرائه الجريئة، وأفكاره المتجددة، لم يعرف يوما الحد الفاصل بين المسموح والممنوع، ورغم أنه يحيا في مجتمع لا يزال يعتبر قضاياه الدينية والفقهية «تابوهات» محرمة، والاقتراب منها بالنقد والتحليل رجسا من عمل الشيطان، إلا أنه لم يخش لومة لائم، لأنه باختصار : جمال البنا. نشأ جمال البنا، الذي ولد عام 1920، في بيت أزهري، وهو الشقيق الأصغر لمؤسس جماعة الإخوان المسلمين الشيخ حسن البنا، ورغم هذا كان يعلن خلافه مع الجماعة ورفضه لأفكارها, حتى وهو داخل السجن مع قياداتها، وفى حياة شقيقه مرشدها الأول. دون البنا يوميات حياته في معتقل الهايكستب الذي دخله عام 1948، مع مجموعة من قيادات الجماعة الذين يوصفون ب «الرعيل الأول»، كتب عن علاقته بهم، عن مبادئهم ومواقفهم وطريقة تفكيرهم، ليكشف مفاجآت ربما تقود إلى المقولة الشهيرة «ما أشبه الليلة بالبارحة»، وترفع «ورقة التوت» عن «زمن الإخوان» الذي نرفل فيه الآن! فى هذه اليوميات التي تنفرد «فيتو» بنشرها على حلقات، باعتبارها وثيقة تاريخية مهمة، يروي جمال البنا لحظة بلحظة، حكايات ومواقف مثيرة، فتابعونا حلقة بعد حلقة. منذ ما يقرب من سبع سنوات، وتحديداً بعد صدور كتابى «العلمانيون والحرام العلمي: مراجعة نقدية لعلمية كتابات رفعت السعيد عن حسن البنا» فى أواخر عام 2004م توثقت علاقتى بالاستاذ جمال البنا، وتعددت لقاءاتى معه، وشاركته ببعض ما أمتلكه من وثائق فى خمسة مجلدات من كتابه «من وثائق الإخوان المسلمين المجهولة»وأثناء شهور الإعداد والنشر جاءنى الاستاذ «ع. ف» فى مكتبى وتحدثنا طويلاً فى قضية الوثائق المصرية. وحكى لى ما وصله من معلومات عن بيع بعض أوراق حسن البنا لرجل خليجي. وأكد ما حكاه بأنه -أثناء إعداده لفيلم وثائقى عن حسن البنا- قابل الرجل الخليجى، وطلب منه السماح بتصوير بعض الأوراق بخط البنا للاستعانة بها فى الفيلم، فرفض. صدمتنى هذه المعلومة التى لم أستطع تكذيبها أوتأكيدها، ولكننى نقلتها بتفاصيلها إلى الأستاذ جمال البنا فأبدى استغرابه وشاركنى فى عدم القطع برأي، وإن كان لا يستبعد شيئا، لأن أوراق حسن البنا كثيرة، وموجودة عند أكثر من شخص سواء ورثته، أو رفاق رحلته.. وحكى لى أنه شاهد بعينيه عند نجل حسن البنا «أجندة» بخطه سجل فيها تفاصيل رحلاته فى قرى ومدن القطر المصري. أغرانى ما حكاه بسؤاله عن مصير ما يمتلكه من أوراق خاصة به، وبأخويه حسن وعبدالرحمن، وبوالده الشيخ أحمد، وهل سيكون نفس مصير بعض أوراق شقيقه، أم أن نجل شقيقه «سيف الإسلام» سيرثها ويفعل بها ما فعله بما يمتلكه من أوراق والده (الاحتكار ومنع النشر بل منع الاطلاع عليها) ولأن الأستاذ جمال قد أتاح لزينب أبوغنيمة فرصة الاطلاع على هذه الأوراق، وتصويرها للاستعانة بها فى كتابها عن حسن البنا وجماعته، وبادر هو بنشر بعض هذه الأوراق فى كتابه عن الوثائق المجهولة، فقد اقترحت عليه تصوير بعص وثائق أرشيفه، لإنقاذها من مصير التبديد أو الاحتكار، فوافق بحماس بل واقترح أن يكون عملى بمقابل مادى فرفضت، ومن اليوم التالى لموافقته بدأت الرحلة، التى اشترط فيها الأستاذ جمال تسجيل بيانات ما أخذه للتصوير فى أوراق يحتفظ بها، ويكون التسليم فى اليوم التالى على نفس البيانات المسجلة لديه، وبعد فترة كان الأستاذ جمال يسلمنى ما اختاره للتصوير ب «العدد» بعد اطلاعه عليها، وكان فى كل مرة يحدثنى عن بعض الوثائق وأهميتها وظروف كتابتها -إن كان لها- وكيفية حيازته لها- إن كانت لغيره- وفى اليوم التالى كان يتسلمها منى ب «العدد» (بعد مراجعتها). وأثناء هذه الرحلة وفقت فى إنقاذ سبعة مجلدات من مخطوطة «الفتح الرباني» كانت مخبأة فى أربع كراتين، وموضوعة فى المحزن - وهو مبنى يبعد قليلاً عن العمارة التى يسكن فيها الاستاذ جمال الذي استغرب خروج هذه المخطوطات من المكتب، ووجودها فى المخزن «خصوصاً وهى النص الكامل الذى نشره الشيخ أحمد مختصراً نتيجة تعرضه لضغوط مالية». فطلبت منه تجليدها ووضعها مع باقى مجلدات المخطوطة، عله يأتى اليوم الذى ينشر فيه «الفتح الرباني» كاملاً.. وقد فعل. المهم..وحتى لا نغرق فى تفاصيل الرحلة -وهى كثيرة- أقول:إننى أثناء بحثى عثرت على ظرف مكتوب عليه «الهايكستب.. أوراق المعتقل».. ففتحته ووجدت بداخله أوراقا قديمة مختلفة الأحجام والأشكال وغير مرتبة، فأخذته إلى الأستاذ جمال الذى بمجرد مشاهدته ابتسم وقال: ياااااااااه.. وأخذ يقص عليّ حكاية هذا الاعتقال الذى تم ليلة حل جماعة الإخوان المسلمين فى 8/21/8491م واستمر ما يقرب من عامين، وشمل هذا الاعتقال إخوانه (عبدالرحمن - عبدالباسط - محمد)ويقص علىّ حكاية هذه الأوراق، وكيف كان يكتبها على مكتب بدائى مكون من سطح خشبى موضوع على أقفاص، وكرسى عبارة عن صناديق صابون، وكيف كان يوفر الورق الذى كان نادراً فى معتقل الهايكستب، وكان متوافراً بكثرة فى معتقل الطور بفضل كرم وكيل مكتب تلغراف الطور الذى كان يمنحه دفاتر الحوافظ اليومية القديمة، وحكى لى أن قومندان المعتقل فاجأ «الحدا» (العنبر) المجاور، وعاث فيه فساداً وفى نزلائه سباً، وقبل أن يأتى عنبرهم، مزق زملاؤه ما كتبوه من مذكرات، وتخلصوا مما صنعوه من معدات وأدوات للراحة، وأتاه نفر من المعتقلين يرجونه أن يتخلص من أوراقه الكثيرة، سواء بالتمزيق أو بالحرق، فرفض بإصرار، وازاء إصراره عاونه الإخوان فى اخفاء هذه الأوراق بدفنها فى الرمال حتى انتهت هجمة القومندان فأخرج أوراقه واستأنف الكتابة، رغم نجاحه فى اخراجها معه من المعتقل وحرصه على الاحتفاظ بها والمحافظة عليها، إلا أنها لم تنج من حكم الزمن بتلف بعضها، نتيجة الرطوبة أو الفئران، وبضياع بعضها نتيجة تنقلات السكن، أو باختلاطها مع أوراق أخري، وبتداخل صفحات الباقى خاصة وأن أغلبها غير مرقم. بعد انتهاء الأستاذ جمال من هذه التفاصيل سألته عن موقفه من هذه الأوراق.. وهل يفكر فى نشرها فقال: لا.. لأنها تحتاج إلى وقت وجهد هو يفتقدهما.. فطلبت منه منحى فرصة القيام بهذا العمل، فقال: إنك ستبدد وقتك وجهدك لصعوبة قراءة الخط أو ترتيب الصفحات غير المرقمة أو البحث عن الصفحات المفقودة أو المختلطة بغيرها. فقلت: دعنى أحاول.. فقال وهو يضحك: أنت حر، فسألته عن إمكانية وجود أوراق أخري.. فقال: ربما لا.. وربما نعم.. فأنا لم أعد إليها بعد كتابتها (أى منذ ما يقرب من ستين سنة).. وهو رد أغرانى بإعادة البحث فى عشرات «الكراتين» التى تمتلئ بها شقته، ورغم مرور شهر.. انتهى بحثى بالعثور على أربع أو خمس صفحات، أضفتها إلى ما وجدته فى ظرف «الهايكستب». أخذت صورة من الأوراق، وظللت ما يقرب من ثلاثة أشهر أحاول -فقط- فك طلاسم خط الأستاذ جمال، وهى عملية مرهقة استعنت فيها بعدسة مكبرة لتساعدنى فى حل لغز حركة حروف بعض الكلمات التى استعصت على عينى المجردة، وكنت أوفق فى أحيان كثيرة، وفى حالات قليلة جداً أصل إلى قراءة محتملة، وفى حالات نادرة لا تتعدى الأربع كلمات لم أوفق. وهى كلمات فشل «أبوهاني» (موظف الكمبيوتر عند الاستاذ جمال وخبير بخطه) فى قراءتها.. وكنت أقوم بترقيم الصفحة التى انتهى من قراءتها، وأعيد كتابتها بخطى فى صفحة تحمل نفس الرقم، وهكذا فى كل الصفحات. ومكثت ما يقرب من شهر مع النسخة المكتوبة بخطي، أقرأ كل صفحة مرات عديدة للبحث عن سياقها مع الصفحات الأخرى حتى اهتديت إلى ترتيبها الترتيب الموضوعى الذى - فى ضوئه- أعدت ترتيب أوراق النسخة المكتوبة بخط الأستاذ جمال، وبعد كل ما سبق وجدت نفسى أمام نصين: النص الأول: يوميات معتقل الهايكستب، وهى تبدأ من يوم السبت 11/21/8491م (أى بعد اعتقاله بيومين) وتنتهى بجزء من يوم الأثنين 13/1/9491م (و هو أول يوم له فى معتقل الطور) وتتكون من «021» صفحة. النص الثاني: عبارة عن رواية بدون عنوان (أخبرنى الأستاذ جمال بأن عنوانها هو -قادم من الطور-) استعان فيها الأستاذ جمال ببعض ما كتبه فى يوميات الهايكستب، وسمى نفسه فيها ب «صادق أمين»، وغير أسماء كثير من الإخوان، وأشار بالحرف الأول إلى بعض الإخوان، وذكر الأسماء الحقيقية لقليل من الإخوان.. وهى مكونة من أربعة فصول، الأول: بعنوان «فى سجن قسم أول -طنطا»، والثانى بعنوان «معتقل الهايكستب» والثالث بعنوان «الطور»، والرابع بدون عنوان، وهذه الرواية تقع فى «152» صفحة، وكل صفحاتها مكتوبة على ورق دفاتر الحوافظ اليومية الخاصة بمكتب تلغراف الطور. ولتوقف نص «اليوميات» عند جزء من يومية 13/1/9491 وهو ما يعنى أن لهذه «اليومية» بقية، وأن بعدها «يوميات» أخرى مفقودة.. ولضياع ما يقرب من «91» صفحة من نص الرواية، وهو ما دفع الأستاذ جمال -بعد عرض هذه المشكلة عليه- إلى اقتراح استخلاص ما فى نص الرواية من وقائع لاستكمال نص اليوميات فى «معتقل الطور» و«عيون موسي» حتى الإفراج عنه، وقد تناقشت معه فى صعوبة تنفيذ هذا الاقتراح، بل فى خطورته على النصين، لعدم إمكانية فصل الواقعى من الخيالى فى نص الرواية، وأننا بهذا الفعل الاجتهادى أو للدقة التخمينى سنضحى بالرواية، وسنفسد «اليوميات» بل سنفقدها صفة «الوثيقة»، فترك لى حرية التصرف، وهى حرية أغرتنى بارجاء أمر الرواية إلى وقت لاحق، والعمل -الآن- فى اليوميات. ولبدء العمل فى «اليوميات» الموجودة كان لابد من محاولة التفكير فى حجم «اليوميات» المفقودة، ولكى يكون التفكير جاداً فقد عدت إلى نص الرواية، لأننى لاحظت أن الأستاذ جمال من صفحة 46 فى الفصل الأول، كان يكتب تاريخ الكتابة أعلى الصفحة، فمثلاً كتب أعلى صفحة 46 (الثلاثاء 8/3/94) وصفحة 86 (الأربعاء 9/3) وصفحة 77 (الجمعة 11/3) وهكذا حتى الفصل الرابع المكون من 83 صفحة فكتب أعلى الأولى (الخميس 62/5) وصفحة 5 (الجمعة 72/5) وصفحة 41 (الاثنين 03/5) وصفحة 61(الثلاثاء 13/5)وصفحة 73 (92/6). وهذه الملاحظة ذهبت بعقلى إلى نتيجة مفادها أننا إذا طرحنا ال 46 صفحة غير المؤرخة من عدد صفحات الرواية ال 152 يمكننا القول إن الأستاذ جمال كتب ال 871 صفحة المؤرخة فيما يقل عن أربعة أشهر، وإذا افترضنا - فى حدود متوسط ما كان يكتبه- أنه كتب ال 46 صفحة الأولى فيما يقل عن عشرين يوما السابقة عن «8/3/94» فهذا الافتراض سيصل بعقولنا إلى أن الاستاذ جمال بدأ فى كتابة هذه الرواية تقريباً من 02/2/9491م. إلى جانب ما سبق إذا تذكرنا أن حسن البنا شقيق جمال البنا اغتيل يوم 21/2/9491م وإذا علمنا مكانة الشقيق الأكبر عند الشقيق الأصغر، فالعقل يكاد يقطع بأن الأسبوع الفاصل بين تاريخ اغتيال الشقيق الأكبر وتاريخ بدء الشقيق الأصغر فى كتابة الرواية هو أسبوع حزن طبيعى قد يمنع من كابده من ممارسة أشياء كثيرة كان يمارسها، وربما منها الكتابة. كل هذا جيد، لكنه وضع عقلى فى مواجهة السؤال الطبيعي: هل الأستاذ جمال استغنى بالرواية عن اليوميات.. أم أنه ظل يكتب «يومياته» كوثيقة إلى جانب كتابة روايته؟ ولأهمية السؤال.. ولحاجته إلى إجابة يقينية أنا أفتقدها، فقد ذهبت إلى الأستاذ جمال وأطلعته على تفاصيل ملاحظاتى والنتائج التى انتهيت إليها، والسؤال الذى توقف أمامه عقلي، فأقر ملاحظاتى ونتائجى وقال: بأنه فعلاً توقف عن كتابة «يومياته» بعد اغتيال شقيقه حسن البنا واكتفى بكتابة رواية «قادم من الطور» إلى جانب كتابات فكرية أخرى أطلعنى عليها، فأستاذنته بإثبات هذا الإقرار فى هذه المقدمة، فأذن لي، وهو -كما نري- إقرار- يجعلنا نقول باطمئنان إن اليوميات المفقودة قليلة «من 1 حتى 11/2/9491» وأن اليوميات الموجودة تستحق فعلاً ما بذلته من جهد فى تحقيق نصها. تعاملت مع هذه «اليوميات» كوثيقة تاريخية، فمنعت نفسى من التدخل فى متنها سواء باستكمال ما هو ناقص، أو بتقديم كلمات بديلة للكلمات التى استعصى علىّ قراءتها، أو بإعادة صياغة بعض الجمل التى تبدو فجة أو غير دقيقة، وكذلك منعت نفسى من الاختلاف أو الاتفاق مع الآراء الواردة فيها، سواء كانت فكرية أو تقييمية لبعض الشخصيات، ليقينى أن الوثيقة «مادة خام» لا يجوز لى سوى إنقاذها من الضياع أو التبديد أو الإتلاف أو حتى السرقة، وهذا - فى يقيني- لا يكون سوى بالنشر. إلى جانب هذا أقول إن كل مافعلته هو تخريج الآيات القرآنية، والتعريف بالأسماء الواردة فى «اليوميات».. وللأهمية القصوى أضفت ثلاثة ملاحق. الأول: نص طلبات الإفراج التى أرسلها الأستاذ جمال إلى قومندان المعتقل، والثاني: نص الخطابات التى أرسلها الشيخ أحمد إلى أولاده الأربعة «عبدالرحمن - عبدالباسط - محمد - جمال» فى المعتقل، والثالث: نصوص اجابات الإخوان على أسئلة الاستفتاء الذى أجراه الأستاذ جمال فى المعتقل، حول موقفهم من بعض القضايا.. وهى فى - تقديري- ليست مجرد إضافات تعمق المتن.. لكنها - فى حقيقتها- وثائق:أى «مادة خام» ستضئ لنا مناطق مجهولة فى فكر الإخوان. بعد إطلاع الأستاذ جمال البنا على هذه المقدمة وموافقته الخطية فى 51/5/2102م على ما ورد فيها.وبموجب تفويضه الخطى لى فى 91/4/2102م أبدأ فى نشر هذه «اليوميات» منصور أبوشافعى 61/5/2102م