أظنكم كنتم معي من بداية الحكاية، علاء الأسواني ذلك الأديب الذي احترف السياسة، أو ذلك السياسي الذي احترف الأدب، أو قل ذلك الطبيب الذي حاول أن يكون نجما في الأدب وزعيما في السياسة، لن أحدثكم أنا عنه، ولكنني كما قلت لكم في العدد الماضي إنني سأحكي لكم ما قاله لي الأديب المصري العالمي الكبير نجيب محفوظ رحمه الله، أعلم أنني طرحت عليكم مقدمة طويلة، ولكن المقدمة كان لا بد منها، فلقاء نجيب محفوظ بعلاء الأسواني مسألة ليست هينة، إذ كيف يلتقي ميت بحي، لا تأخذكم الظنون فتقولون إن نجيب محفوظ هو الميت وعلاء الأسواني هو الحي، فالعكس هو الصحيح، فبعض من ماتوا لا يزالون أحياء يقدمون لنا ويضيفون لحياتنا، ونجيب محفوظ من هذا النوع، وبعض الأحياء يعيشون بيننا أمواتا لا حياة فيهم ولا تأثير، بل إن حياتهم تلك هي الحياة الزائفة التي تبعث الموت في البلاد، وعلاء الأسواني من هذا النوع، والحكاية التي سأحكيها لكم أخبرني بها الأديب الكبير نجيب محفوظ وهو الذي طلب مني أن أكتبها لكم، ذلك أنه اعتبرني من الحرافيش، والحرافيش عند نجيب محفوظ هم أهل الصدق والجدعنة، وثانيا لأنه كان عارفا لكثير من أحداث حياتي وكان يعلم أنني أنا أبو يكح الجوسقي صاحب نبوءات كثيرة، وصاحب النبوءات هو الأقدر على استيعاب الحكاية التي حكاها لي محفوظ. هذا جيد إذن تتذكرون المقدمة الطويلة والتي وصلنا في نهايتها إلى أنه ذات يوم.. عفوا.. ذات مساء كان علاء يجلس في فيلته الفاخرة في الشاطئ المميز بالساحل الشمالي، تطل الفيلا على البحر مباشرة، وملحق بها مرسي لليخوت، سهر علاء سهرة طويلة مع بعض الرفاق، شربوا أثناء السهرة عشرات الكؤوس من أجود أنواع الخمور، وبعد أن انصرف الرفاق أخذ علاء يصعد السلم الداخلي وهو يتطوح ليصل إلى الدور العلوي للفيلا وهو يمسك بيده اليمنى زجاجة خمر كادت أن تفرغ وكان قد رأى أن يبتلع ما فيها وهو على سريره قبل النوم، وعلى السرير ألقى بجسده الثقيل وهم بأن يفرغ الزجاجة بما فيها داخل جوفه، وفجأة حدث ما لم يكن في الحسبان، إذ سمع صوتا مدويا وكأن شيئا ثقيلا قد ارتطم بالأرض، نحى علاء الأسواني زجاجة الخمر جانبا وهو ينظر لها بحسرة، ولكن الخوف كان قد سيطر عليه، فتقدم ببطء ناحية الكومود الملاصق للجانب الآخر من سريره وفتح دُرجه وأخرج طبنجة أمسكها كما يمسك ثدي عشيقته، فبعثت الطبنجة الأمان في نفسه إلا أنها أيضا حركت في داخله نشوة لذيذة جعلت شيئا ما من جسده ينتصب واقفا وكأنه سيشاركه في استطلاع سبب هذا الصوت المدوي. كانت حجرته متسعة يفصلها عن بقية الفيلا ممر داخلي قصير تفقده الأسواني بعناية فلم يجد شيئا غريبا: "ربما يكون الإرهاق مع الخمر التي لعبت برأسي هما ما جعلاني أتخيل صوت الارتطام".. هكذا قال الأسواني لنفسه ثم عاد إلى جلسته الأولى على السرير ووضع الطبنجة بجواره وأخذ يعب من زجاجة الشراب عبا، لكنه سرعان ما سمع صوتا ثانيا كان هذ المرة أشبه باندفاع بخار محبوس.. هب الأسواني واقفا وتطلع نحو الممر فلم يصدق عينيه، كان الممر محجوبا تماما بغيمة بيضاء كبيرة بدت وكأنها بخار كثيف، ولم يلبث أن رأى جسما يخرج من الغيمة البيضاء ويتقدم نحوه، شيئا فشيئا استطاع أن يميز رجلا في منتصف العمر يرتدى بدلة "شركسكين" بيضاء ورابطة عنق رفيعة زرقاء على طراز الستينيات، خيل للأسواني أنه رآه من قبل، ولما ظهر وجهه في الضوء صارت المفاجأة أكثر من طاقة الأسواني أن يتحملها فوقف مذهولا، لكن الرجل ابتسم وبادره قائلا: إزيك يا علاء، أخبارك إيه ؟ طبعا تعرفني فأنا نجيب محفوظ الذي تقول إنك تعلمت منه فن الرواية. ظل الأسواني يحدق صامتا في محفوظ الذي استطرد: أعرف أن نزولى من العالم الآخر سيظل بالنسبة إليكم لغزا لأنكم يا أهل الأرض محتجزون في نطاق حواسكم ولكن أرجو أن تتغلب على الصدمة لأنى سأحدثك في أمر مهم. دمدم الأسواني بصوت متقطع وهو يحاول تمالك نفسه ثم قال: يافندم أنا رجل مؤمن وربنا سبحانه وتعالى قال "إنما الروح من أمر ربي" ليس هناك أي شيء أكبر من قدرة الخالق.. أهلا وسهلا يا فندم سعيد جدا برؤيتك، سيادتك كنت دائما مثلى الأعلى، إلا أنني... ثم نظر إلى زجاجة الخمر التي في يده وحاول أن يخفيها إلا أنه لاحظ أن نظرات نجيب محفوظ قد تسمرت على تلك الزجاجة، فقال الأسواني: كنت أخاف أن تكون الخمر التي شربتها هي التي لعبت برأسي وجعلتني أتخيل حضورك، وأظنك تعرف الخمر جيدا فأنا أعلم أنك شربتها في شبابك. قال محفوظ: نعم شربتها، ولكنني لم أسكر أبدا، كما أنني لم أحاول إسكار القراء. قال الأسواني: هل حضرتك تعني شيئا معينا ؟ محفوظ: لا أريد أن أتطرق لموضوعات كثيرة، إذ لا وقت لديَّ وقد حضرت إليك في مهمة محددة ويجب أن أعود على وجه السرعة إلى عالم البرزخ الذي أتيت لك منه. الأسواني: تفضل يا فندم وأنا كلي آذان صاغية. محفوظ: أول شيء يا علاء هو أنني لاحظت، وأظن أن كثيرا من أهل الدنيا يشتركون معي في هذا، لاحظت أنك صاحب خيال محدود للغاية، فأنت لا تملك إلا مجموعة محدودة من العرائس تحركها في كل رواية بنفس الطريقة مع اختلاف الأسماء فقط، أنت ما زلت يا علاء تجتر كل يوم وفي كل عمل روايتك "عمارة يعقوبيان" فعلتها في رواية شيكاجو، وفعلتها في رواية نادي السيارات، أنت لا تملك إلا نفس الحدوتة. الأسواني: وهل هذا عيب ؟! محفوظ: طبعا هذا عيب بالنسبة لروائي يقبل الناس على قراءته، ويضاف إلى ذلك أنك تضع في كل رواية جرعة كبيرة وفجة من الجنس بصورة صريحة ومبالغ فيها، وهذا هو أدب البورنو يا علاء، وأظنك بهذا تعيد مرة أخرى أدب الرصيف الجنسي الذي كان منتشرا في مصر إلى الستينيات ولكنه كان أدبا محتقرا، تذكر طبعا مذكرات إيفا، ومغامرات جيمس بوند، أنت تنقل منها نقل مسطرة كل الجنس الذي تضعه في أعمالك، ولذلك أقبلت فئة كبيرة من الشباب على أعمالك جريا وراء الغريزة التي تسكر عقولهم بها، ومع جرعة الجنس رأيتك تضع جرعة سياسة، على حكايات وحواديت عن الفساد، كل هذا في عدة حكايات لا يرتبط بينهم رابط درامي معين، بل شتات في شتات، بحيث إذا حذفت يا علاء حكاية منهم لم يختل عملك الروائي. الأسواني: أظن أن هذا اختلاف أجيال يا كبير. محفوظ: لا أبدا، ليس اختلاف أجيال، ولكنك بطريقتك تلك كنت تخاطب مدرسة ثقافية ليست من عندنا، أنت طبعا تنتمي للمدرسة الفرنسية، وأعمالك تحاول فيها إرضاء تلك الثقافة لتحصل على جوائز منهم. الأسواني: وهل الحصول على الجوائز عيب، أنت حصلت على نوبل، أتفرح بها لنفسك، وتوبخني إذا حصلت على جوائز مثيلة لها ؟!! محفوظ: أنا يا علاء في أعمالي كنت أخاطب ثقافتنا، مجتمعنا، حارتنا، حرافيشنا، ومن المحلية انتقلت للعالمية، كل ذلك دون أي إسفاف أو ترخص أو ابتذال. الأسواني: ومن جيلك يا عمنا كان إحسان عبد القدوس الذي قالوا عنه إنه أديب الفراش. محفوظ: عبد القدوس يعتبر راهبا بالنسبة لك، لم يصل بعباراته إلى الفحش الذي تكتبه، بل إنه كان يستخدم ملكاته في التورية والتلميح لا التصريح الفج المبتذل الذي تقوم به أنت. الأسواني: الله الله الله، إحنا هانغلط ولا إيه. محفوظ: أنا لا ولم أغلط في حق أحد يا علاء، ولكنني أصف واقعك. الأسواني: وهل أتيت لي لتسمعني هذا الكلام ؟ محفوظ: لا، ولكن لأسمعك كلاما آخرا. الأسواني: وما هو ؟ محفوظ: كل الأخوة الأدباء والكتاب السياسيين في عالم البرزخ طلبوا مني أن أخبرك أمرا ما. الأسواني: هذا شرف لي أن يكلفك الأدباء بنقل أمر لي.. فما هو ؟ محفوظ: هم غاضبون منك غضبا شديدا ويقولون إنك أضعت هيبتهم وهيبة الكتاب السياسيين، فحين أردت أن تكتب في السياسة كتبت نفس الشيء مع إحداث تغييرات في الأسماء. الأسواني محتجا: مثل ماذا ؟ محفوظ: عندما تتبعنا مقالاتك وجدناك منذ زمن مبارك تكتب الشيء نفسه، تجعل السادات مرة، وعبد الناصر مرة أخرى، يأتي من عالم الأموات فيتكلم مع مبارك ويعنفه ويحاكمه ويحاسبه، ثم مع محمد مرسي فعلت نفس الشيء، فأحضرت له من عالم الأموات جمال عبد الناصر ليحاكمه، ثم مع المشير السيسي مؤخرا أحضرت له عبد الناصر من موته ليحاسبه، أنت يا أسواني أزعجت عبد الناصر إزعاجا كبيرا، وأقلقت راحته، لذلك يقول لك كل الأدباء والكتاب السياسيين في عالم البرزخ ألا توجد لك طريقة أخرى لتعرض أفكارك، ألا تملك إلا هذه الطريقة ؟! الأسواني معترضا: هذه غيرة منكم. محفوظ مسترسلا: ثم إنهم غاضبون منك لأن رواياتك مقتبسة من أعمال أخرى، وقد فضحك النقاد وفضحوا سرقاتك الأدبية التي أخذتها مثلا من صديقي نعمان عاشور، وهو على فكرة غاضب منك جدا لأنك سرقت عمارة يعقوبيان منه، حتى أسماء أبطال الرواية أخذتها منه، نعمان عاشور ناقم عليك يا أسواني لأنك أخذت روايتك هذه من أعماله، عائلة الدوغري وبرج المدابغ، كما أنك يا علاء سرقت روايتك نادي السيارات من رواية " حفلة التيس " للروائي الإسباني ماريو بارغاس يوسا. الأسواني: هذه ادعاءات غير صحيحة، وأنا أحتج. محفوظ: احتج كما تشاء، لكن كل الأموات في عالم البرزخ وخاصة جمال عبد الناصر يتوسلون إليك ألا تقلق راحتهم وتستدعيهم من موتهم لتحاكم بهم من تشاء، ويقولون لك ابحث عن طريقة أخرى، حراااااام عليك، اعتق ديك أبونا. رواها لكم الأديب والكاتب السياسي أبو يكح الجوسقي صاحب رواية عمارة إخوانيان.