لست أنا الذي أكتب لكم هذه الحكاية، ولكنه هو، هو الذي رواها لى وأخبرنى بنبأها، وما أنا إلا أمين السر وناقل الخبر، وما نقلته عن أمري، ولكنه هو الذي أمرنى أن أنقله لكم كما حدث، أعرف أن التخمينات ستقفز فورا إلى أذهانكم، وستضربون الأخماس في الأسداس، من هو ذاك الذي أعنيه، أكاد أقسم أنكم قد لا تصدقونى إن أخبرتكم، لذلك جال في خاطرى أن أكتم عليكم الخبر بأكمله، ولكنها الأمانة، نعم الأمانة أيها الأصدقاء هي التي ألزمتنى بأن أخبركم مهما كانت العواقب والعقبات، والآن يا صديقى ضع يدك على قلبك واستعد لسماع القصة بأكملها، انتظر، لا تسرف في الظنون وتعتقد أنها قصة من وحى الخيال، فليس معنى أننى قلت إنها قصة أن تكون خيالا، فالله سبحانه وتعالى جل شأنه قال في كتابه الكريم: {نحن نقص عليك أحسن القصص} وكان القصص الذي قصه الله علينا حقيقيا لا يستطيع عاقل مؤمن أن يشكك فيه أو يمارى في حدوثه، نعم هناك من شكك فيه من قبل ولكنهم لم يكونوا من أصحاب الحق والحقيقة، ولكنهم كانوا من أصحاب الشك في الخَلقِ والخليقة، منهم عميد الأدب العربى طه حسين إن كنت قد سمعت عنه من قبل، فهو الذي اعتبر في كتابه "الشعر الجاهلي" أن قصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام من الأساطير التي لا سند لها، و"خذ عندك" هذه المفاجأة، هل تعلم من أيضا شكك في صدق القرآن وصدقِ الله سبحانه وتعالى؟ إنه الشيخ سيد قطب شيخ الإخوان الروحى وملهمهم الأكبر وكاهن معبدهم، نعم يا سيدى حدث منه هذا، ولعل أحد الإخوان سيبادر قائلا: لقد كان هذا إن صدقت في فترة جاهلية سيد قطب قبل أن يدخل إلى الهداية وينضم للإخوان، لا يا عزيزى الإخوانى الربعاوى النازي، لقد كتب شيخكم وشيخ شيخكم سيد قطب هذا الكلام في كتابه الأشهر "في ظلال القرآن" وهو التفسير الذي تعتبرونه أعلى التفاسير، وطبعا تعلمون أنه كتب هذا التفسير على مدى عشر سنوات بعد انضمامه للإخوان، أما ما الذي قاله للتشكيك في القصص القرآنى فاسمع يا سيدي: في تفسيره لقول الله سبحانه وتعالى: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم} يقول: إن موتهم ثم إحياءهم من الأساطير التي لا يجب أن نفهمها على أنها إماتة وإحياء، ولكن قد يكون لها معانٍ أخرى، وعن أن الله مسخ فريقا من اليهود وقال لهم كونوا قردة وخنازير فيقول سيد قطب: ليس من الضرورى أن يكونوا قد تحولوا إلى قردة وخنازير حقيقة فقد استحالوا لها بأرواحهم! يا الله، لقد أطلت عليكم قبل أن أدخل إلى القصة الغريبة التي طلب أحدهم أن أنقلها إليكم بحذافيرها، ولكننى غير مسئول عن هذه الإطالة بل هو، هو الذي أطار النوم من عينى وجعلنى أعيش على ذكرى لقائى به، لذلك فإننى وأنا أطيل إنما أسترجع مع نفسى بعضا من الحوار الذي دار بينى وبينه، فقد تحدثنا عن أشياء كثيرة قبل أن يلج بى إلى حكايته الغريبة، أخبرنى عن صلته القديمة بسيد قطب، وعن رأيه في حسن البنا، وعن حبه لجمال عبد الناصر، ثم تحدث معى عن صدمته في علاء، قال إنه كان يحسن الظن به، ثم أطرق مليا وقال: يبدو أن المشكلة هي مشكلة جيل، أو قل أجيال فنحن لم نحسن تربيتكم، بدليل أن علاء أصبح في تلك المكانة، ثم وضع يده على رأسه وكأنه يريد أن يصم أذنيه، أو كأنه سيرفع الآذان أو يرتل ما تيسر له من القرآن الكريم، وبعد هنيهة رفع يده وقال: ولكنها مكانة منحولة انتحلها لنفسه وهى ليست له. أعجبتنى طريقته في الكلام وحركته اللاإرادية عندما وضع يده على أذنيه وكأنه "فقي" أريب يحذق قراءة القرآن ورفع الآذان، فسألته: هل تحفظ القرآن؟ قال نعم حفظته عن ظهر قلب ثم نسيت معظمه، ثم ضحك وهو يقول: "وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره" أعجبتنى لفتته القرآنية تلك فسألته: هل قرأت تفسير الشيخ سيد قطب للقرآن، أظنك فعلت فهذا الرجل كما يقولون كان صاحب الفضل عليك، فقال: مسألة أنه صاحب فضل فهذه لا أنكرها وإن كان ساعتئذٍ يمارس عمله، لذلك ينبغى ألا نبالغ فيها، ولكننى حقيقة كنت حريصا على قراءة تفسيره، وللحق أقول: إنه لم يعجبني، فقد كان فيه مثل التلميذ الذي يريد أن يثبت أنه متفوق على أستاذه فكتب في مجالات لم يكتب فيها أستاذه، وحين كتب كان لا يفسر القرآن، ولكنه كان يفضح مكنون نفسه، في كل سطر كنت أجد شخصيته أمامي، لا شخصية النص المقدس الذي يفسره، حتى في مقدمته للكتاب كله قال إنه ينظر للعالم كله من مكان مرتفع، وكل العالم تحته، هو الإله صاحب الفوقية والارتفاع، ارتفاع المكانة لا المكان، فالإله لا يحويه مكان، والدنيا بأسرها أدناه، ومع دنو الدنيا في عينيه فإن أهلها كما قال في مقدمته: يموجون في الجاهلية، أما هو فهو صاحب الحكمة والعلم والبصيرة والحل، لذلك فإن سيد قطب لم يكن يفسر القرآن ولكنه كان يتحدث عن نفسه ونفسيته وما اعتمل في وجدانه من إحساس بالذات. معقول!! ألم أبدأ بعد في الدخول إلى القصة الغريبة العجيبة الرهيبة المذهلة، لماذا دائما تأخذنى الأفكار بعيدا وكأننى أتهيب أن أحكى لكم تلك القصة؟! هل ثقلت على قلبي؟! هل لم أستوعبها بعد؟! هل وهل وهل؟!! ألف هل، ولم يحن أوان القصة بعد، وأظن ألف خاطر غشيكم الآن، سيسألنى أحدكم عن هو، من هو ذاك الذي أتحدث عنه ومعه؟ من هو الذي حكى لى القصة وطلب منى أن أنقلها لكم، ثم والأهم، ما هي تلك القصة، لقد نفد صبركم، أنا واثق من ذلك، ولذلك فإننى سأدخل الآن بكم إلى القصة، أرجو من كل واحد منكم أن يبتلع ريقه ويحسن الإنصات، فما سأقوله لا مكان للهزل فيه، وهو ليس نبوءة من نبوءاتى التي ألهمنى الله بها فأخبرتكم بنبأها بعد حين، ولكنه أعلى من النبوءة، يكفى أن الذي حكاها لى نجيب، وقد جاء لى من العالم السرمدى وهو يرتدى البدلة الشركستين، وقد تعجبت أن يكون العالم السرمدى قد توصل إلى البدل الشركستين، ولكن يجب أن تعلموا أن هذا العالم فوق العقل، المهم أنه جاء لى بعد لَأْيٍ وجَهْدٍ كبيرين، وحين جاء حكى لى ما تكبده من مشاق، ولكنه قال: تحملت ما تحملته من أجل أن أصحح مفاهيم يحاول البعض أن يطمسها، هل تذكرون علاء الذي ذكرته في البداية، لقد كان ناقما عليه، قال لى إنه ذهب إليه وكلمه، وعنفه أثناء الحديث، وطلب منه أن يكتب لقاءه به للقراء، ولكن علاء لم يكتب شيئا، يالضيعة علاء وما يفعله، قال لى نجيب إن والد علاء كان صديقا له، ليس صديقا بالمعنى المعروف، ولكنه كان من الأدباء المعروفين، وفى عالم الأدب الكل أصدقاء، والكل أيضا أعداء، فالمنافسة على أشدها، والغيرة تعتمل في القلوب، والكبر والتكبر هو السمة الرئيسية لهؤلاء، كل واحد فيهم يظن أنه أديب الأدباء وحكيم الحكماء، والكل من بعده هواء، أو فراغ، أو لا شيء، قال لى نجيب وهو يحاورني: يا عم أبو يكح الجوسقي، أنت مصري، من طين هذه الأرض، أنت من درب المهابيل، أنت من الحرافيش، أنت ملح الأرض. قلت له: يا عم نجيب لماذا تحملنى ما لا أطيق، لماذا تطلب منى أن أحكى الحكاية التي رويتها لي. قال عم نجيب: لأننى ذهبت إلى من كنت أظنه أديبا فلم يعرنى التفاتا، بل كان حاقدا عليَّ، قال إنه وصل إلى العالمية وكتبه تدر له الملايين في حين أن كتبى كلها مجتمعة لم تطبع مثل رواية واحدة له، فقلت في نفسى إننى أخطأت الطريق ويجب أن أذهب إلى واحد من الحرافيش الحقيقيين، لذلك أتيت لك وحكيت لك القصة. قلت له: أنت يا عم نجيب محفوظ زعيم الرواية العربية، ولا يستطيع أحد أن يبزك أو ينال قصب السبق عليك، من هو ذاك المدعو علاء الأسوانى حتى يقابلك بمثل هذه الطريقة، إنه بالنسبة لك لا شيء. قال عم نجيب محفوظ: لقد واجهته، قلت له إنه يسرق أفكار رواياته، بل حتى بعض تفصيلاتها، واجهته بأنه لا قدرة لديه على الإبداع الحقيقي، خياله ضحل ومحدود، حتى المقالات التي يكتبها يعيدها المرة تلو الأخرى دون أن يقدم جديدا اللهم إلا تغيير بعض الأسماء فقط. ظللنا أكثر من ساعة نتحاور، وكلفنى الأديب العالمى المصرى الأصيل نجيب محفوظ أن أنقل لكم القصة الرهيبة التي رواها لي، قصة مقابلته لعلاء الأسوانى وما حدث بينهما، فهل لديكم الاستعداد على لسماع القصة، أعلم أننى أطلت عليكم، ولكننى سأبدأ الآن في الحكاية. ذات يوم.. عفوا.. ذات مساء كان علاء يجلس في فيلته الفاخرة في الشاطئ المميز بالساحل الشمالي، تطل الفيلا على البحر مباشرة، وملحق بها مرسي لليخوت، سهر علاء سهرة طويلة مع بعض الرفاق، ويبدو أنهم زودوا «العيار حبتين» وبعد أن انصرف الرفاق أخذ علاء يصعد السلم الداخلى وهو يتطوح ليصل إلى الدور العلوى للفيلا، وفجأة حدث ما لم يكن في الحسبان، انتظرونى في العدد القادم لأستكمل لكم القصة، لا تغيبوا عني.