من البديهيات التي يؤمن بها كل حكيم عالم ببواطن الأمور عاقل في معالجته للأمور في علاقته بالحاكم وأهل الحكم في كل زمان ومكان، أن تكون علاقته بالحاكم مبنية على أسس ثلاثة مهمة هي: أولًا: أن ينصحه إذا سأل. ثانيًا: أن يناصره إذا عدل. ثالثًا: أن يخاصمه إذا ظلم. من خلال هذه الأسس الثلاثة تنظم العلاقة بين صاحب المعرفة والعلم والدراية من ناحية، وبين الحاكم. وصاحب العلم والدراية قد يكون خبيرًا أو عالمًا متخصصًا في أمور الحياة الاجتماعية أو كاتبا ذا أفق واسع وإدراك بالأمور بشكل شمولي وأيضًا تفصيلي في شئون السياسة والحكم، فيقدم من خلال هذه المعارف المجتمعة فيه أو المنفردة النصح للحاكم إذا سأله في أمور الدنيا وأن يكون صادقًا أمينًا في نصحه، يقدم الحقيقة كما هي دون زيف أو تكييف لها بما يحقق رغبات الحاكم أو نزواته. ولعل لنا في كثير من الآيات القرآنية خير منهج ودليل في نصح العالم وصاحب المعرفة للحكام، ولعل أوضحها في قصص القرآن كان بين سيدنا يوسف عليه السلام وملك مصر حيث فسر له حلمه دون مواربة قائلا: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف: 47-49]. بل المثال الأشهر على ذلك هو نصيحة سلمان الفارسي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم بحفر خندق حول المدينة في غزوة الأحزاب، وكذلك نصيحة الحباب بن المنذر رضي الله عنه، للرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر عندما قال: "أهذا منزل أنزلكه الله، أم هي الحرب والمكيدة؟! قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نُغَوِّر ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون. وهنا ظهرت الأمانة والمصداقية في نصيحة الحاكم باعتبارها من الأمور المهمة والجوهرية خاصة في عصرنا الحالي، حيث إن إفرازات الاختيارات الشعبية بالانتخاب والاقتراع، قد تجعل من البعض ناقصي الخبرة يتدخل في تسيير أمور دفة الحكم، مع أن كفاءة إدارة شئون الرعية غائبة عنهم، ومنح العلماء وأصحاب المعرفة مجالًا يقدمون فيه النصح والإرشاد للحكام المنتخبين في الإعلام المقروء والمسموع والمرئي أمر لابد منه. ومن الأهمية بمكان أيضًا أن يناصر أصحاب المعرفة والحكماء الحكام فردًا كان أو جماعة، إذا اتجهوا نحو العدل بين الناس؛ لأن هذه الفئة من العقلاء في أي مجتمع لها منزلة اجتماعية رفيعة بين الناس ويحترمونها ويسيرون غالبًا برأيها وتؤثر في الرأي العام بصورة مباشرة، وفي بعض الأحيان بصورة غير مباشرة، ولذلك فإن مناصرة الحكام العادلين واجبة على كل صاحب علم ودراية، ولكن هذه المناصرة لا تكون صماء كما يقول المثل " عنزة ولو طارت ". إن هذا ما كان يحدث في حياة المجتمعات التي كان يحاول حاكمها أن يسوسوا شئون الناس ويديرونها بمصداقية وعدل، وليس حاكمًا يريد أن يكون صاحب عزبة ينظر إلى الناس فيها على أنهم عبيد عنده يخدمونه هو وأسرته. وفي كل عصر وزمان تظهر ثلة من البشر يلبسون ثوب الحكمة والعلم ويناصرون الحاكم الظالم، بل يمجدونه ويؤلهونه ويجعلون منه الزعيم الأوحد المنتصر دائمًا، حتى وصلت الأمور لأن يطلقوا عليه "الزعيم الخالد". إن هؤلاء لا يمكن أن يكونوا حكماء أو علماء بالمفهوم الحقيقي للعلم وشروطه، أو المعرفة والحكمة بمواصفاتهما الموضوعية، لأن هؤلاء يمكن أن يكونوا مداحين وشعراء يغنون باسم صاحبهم وولي نعمتهم؛ ولكنهم لا يرقون إلى مستوى المعرفة والحكمة. ونخلص هنا إلى أن مناصرة الحاكم سواء كان فردًا أو جماعة، واجب على كل من يستطيع القيام بها على كافة المستويات وفي جميع الأطياف والفئات الاجتماعية. ونأتي إلى الصفة الثالثة، التي تجعل من هذه الفئة من البشر حاملي راية العلم والحكمة والمعرفة باختصاصاتهم المختلفة يتصدون للحكام أيضًا- وأكرر هنا أنني أقصد بالحكام أفرادًا أو جماعات؛ لكي لا يساء فهمي- فالحاكم الفرد يفترض أنه في زمننا الحالي لا وجود له إلا في المجتمعات المتخلفة، ولكنه قد يكون رئيسًا لمجموعة من الحكام مثل رئيس مجلس الوزراء أو رئيسًا لمجلس رئاسي أو رئيسا لمجلس الأمة مع اختلاف التسميات، أما الجماعات فقد تكون مكونة من مجموعة من الوزراء أو مجموعة من النواب أو مجموعة من البلاط الرئاسي المؤثرين بحكم قربهم من سدة الحكم. فكل هؤلاء يتعرضون إلى الوقوع في دائرة الظلم وعدم العدل، ليس في الحكم ومسائل السياسة فقط، بل تجلت بين الناس وبين التجمعات السكانية من مدن وقري ومناطق، وفي الأمور الاقتصادية والاجتماعية بنشر الفساد وممارسته من قبلهم، سواء كان فسادًا ماليًّا أو إداريًا أو اجتماعيًّا. إن الوقوع في هذا الأمر من قبل هؤلاء يجعل على كل أصحاب المعرفة والعلم والمصداقية واجب، ومن المهم أن ينحازوا للحق وأن يخاصموا هؤلاء ويقفوا ضدهم ويحملوا راية العصيان عليهم وأن يشرحوا ويوضحوا للناس هذه الأمور حتى يقوموا بواجبهم لعزلهم من مواقعهم أو إلزامهم بالحد الأدنى وهو تغيير منهجهم بما يسمي المنهج الإصلاحي. ولعل من الأهمية بمكان أن أضيف عاملين مهمين وأساسيان في هذا الأمر: الأول: أن يكون صاحب العلم والمعرفة والحكمة- رجلًا كان أو امرأة- مؤمنا إيمانا كاملًا بتعاليم دينه ملتزمًا قولًا وفعلًا بكتابه السماوي، منحازًا لما نزل فيه من حق وشرع ينظم الحياة بين الناس، معتدلًا في أحكامه، ليس تابعًا لبشر ممن يأتمرون على الناس باسم الدين، بل مؤتمرًا بما أُنزل من المولى عز وجل، وسنة رسوله محمد صلي الله عليه وسلم المؤكدة، أخذًا بالاجتهادات في المسائل الأخرى التي لا تتعارض مع نصوص القرآن وأحاديث النبي صلي الله عليه وسلم والتي تصلح للتطبيق وتمس الجوهر والمضمون لا الشكل فقط. وأن يحترم عقول الناس في سلوكياتهم الدينية وينصحهم بالحسنى، ولا يغالي في النصح، وينحاز ويتطرف لإمام بعينه؛ لأن في اختلاف الأئمة عبر سنوات طويلة رحمة بدون أي شك. العامل الثاني، وهو مهم جدا، بأن لا يكون صاحب المعرفة والحكمة والعلم والدراية له أغراض خاصة يوجه الحكام من خلالها لتحقيقها دون أن يدروا أو له ما يسمي الآن بأجندات مرتبطة بتنظيمات فكرية وسياسية مستوردة عن المجتمع تستهدف السيطرة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على المجتمع، وتستخدم هؤلاء أصحاب الحظوة العلمية والمعرفية في المجتمع لتحقيقها. ومن الأهمية بمكان أيضًا أن يكون الناصح مجردًا بشكل كبير من كل النزعات والطموحات الشخصية التي تتعارض مع مصلحة الجماعة وتحقق فوائد مادية أو معنوية له ولمن ينصحهم. وقد يري بعض القراء أنه من الصعوبة بمكان أن نجد أفرادًا مثل الذين أصفهم في هذا المقال، ولكنني أقول: إن العملية نسبية، وكلما وجدنا إنسانا له مواقف خيرة، آمرًا بالمعروف، ناصحا به، خادما لإرادة الجماعة أكثر من مواقفه التي يخطئ فيه التقدير، فينحاز برأيه إلى غير ذلك "جل من لا يخطئ"، لأن الأحداث متغيرة ومتحركة بشكل سريع، وبالتالي فإن المواقف حيالها قد تختلف من حدث لآخر، وهذا لا يعني أن صاحب الحكمة أنه غير ثابت على رأي واحد، كما يعتقد البعض، بل من الحكمة أن يكون نصحك وفقًا لمجريات الأمور ومصلحة الناس من خلالها. وللتوضيح أكثر، فإن وقوف الحكيم ضد الممارسات الظالمة التي كان يقوم بها النظام السابق في ليبيا وانحيازه للمظلومين من ناسه تفاعل صحيح ومنطقي، وبالتالي لا يمكن له أن يصمت أمام وقوع الظلم والممارسات نفسها التي يقوم بها من يحكمون بعد القضاء على النظام السابق وتوليهم سدة ودفة الحكم تحت أي مسمى كان. وهنا لا يمكن لنا أن نتهم صاحب هذا الموقف بالمنافق أو بالمتغير، وينطبق ذلك عكسيًّا على أنصار النظام السابق الذين ناصروه وقاتلوا معه، وهم يدركون ما كان يقع من فساد وظلم على أبناء بلدهم، وبعد انتصار الشعب، ومن الوهلة الأولى استمروا في بغيهم، وقاموا بمحاربة التوجهات الجديدة والنظام الجديد ليربكوه ليقع في أخطاء كثيرة، وكأنهم يريدون أن يقولوا للناس: أليس حكمنا ونظامنا كان أفضل؟! إن بعض هؤلاء يعتقد أنهم بهذا الفعل أصحاب مبدأ، وهذا خطأ كبير، لأن نصرة مبادئ الفساد هي فساد كبير، والبقاء على المسار الظالم ظلم ما بعده ظلم، وبالتالي فإن الحكمة والحنكة تجعل منا أن نغير من مواقفنا وفقًا للمعطيات التي أمامنا. إن الموقف الآن في ليبيا يحتاج بحق إلى عمل جاد من قبل الجميع، وأعني بالكل هنا، كل الليبيين والليبيات ووضعهم في سلة واحدة اسمها ليبيا، هذه السلة علينا أن نتعايش فيها بسلام، ليس كما كنا ولا كما أصبحنا، بل من خلال حياة جديدة منهجنا فيها شرع الله المعتدل، وحكمنا فيها الذي ينظم علاقاتنا الرسمية دستور عادل لا يفرق بين أبناء الوطن الواحد، وحكامنا فيها نختارهم بحرية واقتدار، واضعين نصب أعيننا ثلاثة أمور هي الكفاءة والأمانة وحب الوطن بعد حب الله سبحانه وتعالى. [email protected]