الانقلابيون الذين جروا المجلس العسكرى لتبنى منهج «مباحث أمن الدولة» فى التعامل مع قوى الثورة أضروا بالمجلس، وبصورة الجيش، وبمكانته فى النظام السياسى الجديد. منذ ستين عاما والعسكر يشكلون الأساس الصلب للدولة المصرية، ويهيمنون على مفاصل الدولة ومؤسساتها. مارس العسكريون هذه الهيمنة خلال أمرين: الأول هو بناء مؤسسة عسكرية قوية ومترامية الأطراف ومستقلة بالكامل عن القطاع المدنى، فلا أحد يحق له مساءلة القوات المسلحة عن أى شىء تفعله أو لا تفعله. والثانى هو بناء أجهزة مخابرات قوية تحت سيطرة العسكريين، بما فى ذلك جهاز المخابرات العامة. هذه الأجهزة -إضافة لمباحث أمن الدولة- هى التى توفر السيطرة المباشرة على مؤسسات الدولة المدنية. فلا أحد يتم تعيينه فى مؤسسة حكومية دون موافقتها، ولا يتقلد شخص منصبا عاما دون موافقتها، ولا ينفذ وزير سياسته إذا اعترضت، سواء كان لهذه السياسة علاقة بالأمن أو بأى شىء آخر من التوسع العمرانى إلى الثقافة، مرورا بالنقل والآثار والمواصلات والشؤون الاجتماعية والاتصالات والتنمية الإدارية والتموين والإدارة المحلية، وطبعا السياسة الخارجية. هيكل الدولة المصرية الصلب عسكرى، ويرتدى زيا مدنيا من الوزراء والخبراء وأساتذة الجامعات والدبلوماسيين والقانونيين وبعض محترفى السياسة. لكن هؤلاء كلهم معاونون، مساعدون، فى حين أن القرار يعود دائما إلى صاحب القرار، الهيكل الصلب. وقف المجلس العسكرى مع الثورة ضد مبارك كى يحمى هذه الدولة. وظل طيلة العشرة شهور الماضية يجرب مختلف الأساليب لاحتواء الثورة، وتصريفها، و«استعادة الاستقرار»، أى العودة بالدولة إلى العمل وفقا لهذه المنظومة. الذى لم يدركه القائمون على الأمر أن هذه المنظومة نفسها فى حاجة إلى التغيير، وأن الحكم بالطريقة السوفييتية لم يعد ممكنا. وهذا مفهوم، فتغيير المفاهيم الراسخة يكاد يكون مستحيلا. حتى عندما سقط الاتحاد السوفييتى ظن كبار رجال الدولة المصريين أن هذا السقوط نتيجة أخطاء جورباتشوف أو عمالته لأمريكا. لم يصدقوا أن الاتحاد السوفييتى قد سقط نتيجة فشل الدولة الأمنية فى الحكم والمنافسة فى عالم تتغير قواعد السياسة فيه. اختاروا التفسير السهل المريح، واستمروا فى طريقهم. الذى لم يدركه المجلس العسكرى أن انفجار يناير هو نتيجة انسداد شرايين النظام، وليس شرايين مبارك. الذى لم يفهمه المجلس العسكرى أن الهيكل الصلب للدولة -النظام الأمنى- هو المشكلة الحقيقية وليس مبارك. لو أدركوا ذلك، لسعوا إلى تغيير المعادلة السياسية بحيث يدخل المجتمع شريكا فى الدولة. لو أدركوا ذلك، لتفاهموا من فبراير مع المدنيين على صيغة حكم مشتركة تسدل الستار على الماضى وتحمى استقلال المؤسسة العسكرية فى المستقبل. لكنهم فى ما يبدو لم يدركوا ذلك، ولم يصدقوا حين قيل لهم ذلك، ولم يسمعوا. بدلا من ذلك استمعوا إلى الانقلابيين على الثورة الذين زينوا لهم أن العنف وتخويف الشعب والسيطرة على الإعلام الرسمى سيقضى على التأييد الجماهيرى للثورة وعلى قواها الثورية، واحدة وراء الأخرى. والنتيجة؟ النتيجة أن هؤلاء الانقلابيين يهدمون بأيديهم الهيكل الذى يحاولون حمايته. يلوثون صورة الجيش لدى المجتمع ويضعونه فى نفس الخانة التى يقف فيها زبانية القتل والتعذيب والتنكيل بالداخلية. النتيجة أن هؤلاء الانقلابيين يثيرون حنق الشعب وضغينته على الجيش. زمان، كانت مشاعر الحنق والضغينة والخوف تؤدى إلى الاستكانة والاستسلام. أما اليوم فستدفع المجتمع إلى السعى للسيطرة على الجيش، وفتح ملفاته، ومساءلته، وغير ذلك مما كان الانقلابيون يسعون لمنعه. أيها الانقلابيون ارجعوا، فأنتم تهدمون الهيكل على رؤوسنا جميعا.