هناك الآن شبه اتحاد أو إجماع نادر بين مختلف القوى والتيارات والأحزاب السياسية (الحقيقية لا الوهمية أو «الفلولية») على موقف يتباين فى درجة شدته ما بين التحفظ على والرفض القوى لبعض صياغات البند رقم (9) (ومواضع فى بنود أخرى) من مشروع وثيقة المبادئ الدستورية الذى أعدته الحكومة وعرضته أول من أمس (الثلاثاء) فى اجتماع يكاد يتفوق فى الجلبة وسوء التنظيم على مولد ستنا نفيسة رضى الله عنها وأرضاها. وتنصب كل أسباب رفض البند آنف الذكر بصياغته الحالية على فقرة محددة من فقراته، تبدو وكأنها تمنح المجلس الأعلى للقوات المسلحة ميزة الاستفراد والاستقلال التام بمؤسسة الجيش، وعزلها عن باقى مؤسسات الدولة المصرية، إذ يمتنع على البرلمان طبقا لهذه الفقرة أن يعرف أو يقرر شيئا يخص القوات المسلحة، ابتداء من القوانين والتشريعات حتى الميزانية والمخصصات المالية التى سوف يشار إليها فى الموازنة العامة للدولة (كما كان يحدث أيام المخلوع أفندى) برقم ومبلغ إجمالى مصمت ومغلق، يذكر هكذا عاريا من أى تفاصيل تحدد توزيعاته وأوجه صرفه! والحال أن رفض وعدم قبول صياغة بند دستورى على هذا النحو الغريب هو أمر ليس فقط طبيعيا ومنطقيا، وإنما هو أيضا واجب وطنى وموقف مبدئى يفرضه الإيمان بقيم الديمقراطية والالتزام بأصولها، فضلا عن تماشيه وانسجامه مع مقتضيات بناء دولة قانون عصرية، تخضع فيها كل مؤسسات الدولة لرقابة الشعب وبرلمانه المنتخب. صحيح أن مؤسسة الجيش لا بد أن تحاط وتتمتع (كما فى كل بلاد الدنيا) بوضع خاص، وأن يراعى فى التعامل معها اعتبارات وملاءمات عديدة لها علاقة بطبيعتها المتفردة ودورها الخطير فى الحفاظ على أمن الوطن وسلامة أراضيه، لكن كل ديمقراطيات العالم ابتكرت وأبدعت أساليب وآليات دستورية وتشريعية (صارت الآن معروفة ومستقرة)، تحقق التوازن المطلوب بين الوضع الحساس لهذه المؤسسة، وضرورة أن لا تتكرس وتتمترس فى موقع يجعلها وكأنها دولة موازية للدولة ومنفصلة عن سياق التوازن الضرورى بين مؤسساتها وسلطاتها، التى يجب أن تبقى كلها تحت سقف الإرادة الشعبية. ورغم اقتناعى وحماسى الشديد لكل ما فات وانضمامى بغير تحفظ إلى صفوف الرافضين المستهجنين لصياغة البند رقم (9) من مشروع وثيقة مبادئ الدستور، فإننى لم أستطع كبح جماح نفس حضرتى، ولم أجد عندى قوة تكفى للحفاظ على مظاهر الجدية والاحتشام الواجبين، بينما كنت أدردش مع صديق فى هذا الموضوع، وقادنا الكلام إلى موقف جماعة الإخوان المسلمين الرافض لفكرة وجود مبادئ دستورية أصلا، بعدما صور لها التهور والطمع أن بإمكانها «إعادة هندسة» المجتمع كله على مقاسها، لو أفلتت فى الانتخابات البرلمانية المقبلة بأغلبية تسمح لها بالهيمنة والتأثير الحاسم فى تشكيل لجنة وضع دستور البلاد الجديد. والحقيقة أننى فقدت كل احتشامى، وكدت أموت من الضحك، عندما قال لى صديقى إنه سمع فى برنامج تليفزيونى قيادى بارز فى الجماعة، وهو يصب جام غضبه على الوثيقة الدستورية كلها، ويخص البند التاسع بالذات بهجوم عنيف واستنكار شديد لصياغته التى تصنع من الجيش كيانا فوق الدولة، ثم هتف بحرقة قائلا: دلونى على بلد ديمقراطى فى الدنيا يحرم البرلمان من مناقشة ميزانية القوات المسلحة ومعرفة أوجه إنفاقها؟! لم يفهم الصديق سر إصابتى المفاجئة بهذه «الكريزة» من الضحك المجنون، وظل لحظات يتلفت حوله مندهشا ومستعجبا، حتى هدأت قهقهاتى قليلا، وبدأت أمسح شلال دموع الضحك من على صفحة وجهى، بينما أنا أتمتم: بقى يعنى حرام على الجيش المصرى بجلالة قدره، أن يكون مؤسسة فوق الدولة ومحظور مراقبة ميزانيته، وحلال على ستنا «الجماعة» أن تبقى، بعد سقوط الحظر عنها، كيانا مبهما مجهولا يتمتع بالسيادة والاستقلال التام عن نظم الدولة وقوانينها، ولا أحد أو جهة رسمية لها عليها سلطة الرقابة والبحث فى مصادر أموالها وثرواتها الطائلة؟.. سبحان الله!