بعد أن قرر الرئيس السادات الاتجاه بكليته نحو أمريكا، وبدأ بانتهاج ما سماه بسياسة الانفتاح، ثم وافق على إخراج دفعة من جواسيس أمريكا من السجون، كان منهم بكل أسف أستاذ الصحافة الكبير مصطفى أمين، وبعد أن عاد للكتابة مجموعة ممن كانوا قد هجروا مصر على زمن عبد الناصر، وأفسحت لهم الصحف مساحات كبيرة، بدأت موجة عارمة من التبشير بأهمية المشروع الخاص وبقبح وخطأ تدخل الدولة فى النشاط الاقتصادى. وقد شاعت فى ذلك الوقت قصص امتلأت بها الصحف عن شباب كانوا فقراء معدمين ثم هاجروا إلى أوروبا وأمريكا وبدؤوا من الصفر. ولأنهم أصبحوا فى بلاد الفرص والاحتمالات الواسعة فقد حققوا ثروات طائلة وصار كل منهم مليونيرا بفضل الجد والاجتهاد! كانت هذه القصص تجتاح الصحافة المصرية بشكل غريب، وأخذ كتّاب المرحلة على عاتقهم مهمة نشر الحواديت عن قصص النجاح بالخارج لشباب مصرى لم يكن يمتلك سوى أحلامه، ثم صار يمتلك القصور والضياع واليخوت والطائرات! وتكفل مصطفى أمين فى عموده بصحيفة «الأخبار» برواية حدوتة كل يوم من هذا النوع، الأمر الذى جعل الشباب من طلبة المدارس والجامعات يحلمون بفرصة واحدة بسيطة لعبور البحر وبعدها كل شىء سيصير فى المتناول.. ولم لا؟ ألم يفعلها أوناسيس العامل اليونانى الذى هاجر على ظهر مركب بضائع، ثم صار بعد بضع سنين واحدا من أغنى أغنياء العالم! ولأن أفق الهجايص كان مفتوحا على اتساعه، فقد كان الشباب الذين خدرتهم الحواديت، عندما يلتقون دائما كانت تحضر بينهم حكاية يرويها أحدهم عن واحد صاحبه سافر إلى فرنسا واشتغل بمزارع العنب فى الصيف، وهناك تعلقت به ابنة صاحب المزرعة وتزوجته.. أو الآخر الذى سافر إيطاليا وعمل بأكبر مصانع السجق واللانشون فى نابولى وأسر قلب بنت ملك السجق ووريثته الوحيدة فطلبت الزواج منه، فتزوجها، وفاز بالبنت الجميلة، كما وضع يده على الثروة الطائلة. أو حكاية ثالثة عن طالب هجر الجامعة التى لا فائدة منها سوى الشهادة التعيسة ورحل إلى أمريكا، حيث اشتغل عند صاحب واحدة من سلاسل السوبر ماركت الشهيرة، وكان الرجل لا ينجب وليس لديه وريث.. وطبعا أعجب بأمانة الشاب المصرى واجتهاده، ورأى أنه يذكّره بشبابه، فقربه إليه ثم رقاه فى مناصب الإدارة، وأخيرا كتب له ثروته كلها قبل أن يموت! أو حكاية أخرى عن العامل الذى سافر إلى ألمانيا وهو لا يعرف كلمة واحدة من لغتها واشتغل خراطا فى مصنع، ثم ابتسمت له الحياة دون مناسبة وصار من كبار رجال الأعمال فى فترة وجيزة. والحكاية الأخيرة كتبها الأستاذ محمود أبو الفتح فى قصة ذاعت وانتشرت واشتراها منتج فقدمها للسينما فى فيلم اسمه «النمر الأسود» قام ببطولته الفنان الراحل أحمد زكى. لكنى عندما سافرت للخارج وأنا طالب فى نهاية السبعينيات رأيت بنفسى الصدمة والعذاب وخيبة الأمل التى سببتها الحواديت الفالصو التى لعبت بخيال الشباب وجعلتهم يتصورون أن القطوف أصبحت دانية، فإذا بها بعيدة بُعد القمر. العجيب أن هذه الموجة سرت فى وقت كان فيه العامل المصرى يستطيع أن يجد عملا مجزيا فى مصر بكل بساطة، وكان خريج الجامعة لا يحتاج إلى واسطة ليجد عملا، ولم تكن الأمور قد تدهورت إلى ما آلت إليه بعد ذلك فى زمن المَوْكوس.. لكن هذه الموجة كانت تهدف لزعزعة إيمان الشباب بالعمل الجاد والتعلق بضربة الحظ التى لا تحدث إلا بنسبة واحد فى المليار، وتروج فى الوقت نفسه للحقبة السعودية الإسرائيلية التى ضربت مصر بعد ذلك فى العضم.