الحديث عن الثورة المضادة، صار مثل الحديث عن الفساد، في فترة ما قبل الثورة، أمرا مملا ومرهقا، ومع تكراره لم يعد يلقى صدى في النفوس، ولم يعد هناك من يبالي به أو حتى يصدّقه على الرغم من أن كثرة الحديث عن الفساد سابقا لم ينه وجوده، وكذلك الحديث عن الثورة المضادة التي هى تابع حتمي لكل الثورات لم يلغ وجودها، ولا محاولاتها المستميتة لإفشال الثورة أو لإشاعة حالة من الفوضى تساعد على تهريب الفاسدين من السجون، وإنقاذهم من مصير أسود ينتظرهم كما حدث أيام الثورة الأولى. وسلاح الثورة المضادة الأقوى، هو إشاعة استنكار وجودها؛ لأنك إذا ما استنكرت وجودها، فأنت بهذا تصدّق كل ما يصدر عنها وتندفع خلفه بنفس الحماس الثورى، فتتحوّل إلى جيشها الذي تضرب به الثورة وتضربك به أنت شخصيا وأنت تتصوّر أنك تدافع عن مكاسب ثورتك، وهذه ليست نظرية افتراضية، بل حقيقة تاريخية، لو أنك فقط تصفّحت بعض صفحات التاريخ، سترى نتائجها في العديد منها. الأمر هنا عويص ومعقّد، وكذلك حكم دولة عانت طويلا من القهر والكبت والذل والهوان، ويسعى كل فرد فيها إلى الحرية، ولكن المشكلة أن مفهوم الحرية لم يتضح بشكل كاف لدى البعض بعد؛ فهناك خلط واضح بين الحرية والفوضى، ففي الحرية لا بد أن تؤمن بأن الجميع أحرار، ولكل حقوقه، وحريتك وحقوقك ليست مطلقة، بل هي محكومة أبدا ودوما بحرية وحقوق الآخرين، فإذا ما تجاهلت ذلك، وإذا ما رأيت حريتك وحقوقك وحدها، فأنت بهذا لا تؤمن بالحرية، بل إما بالديكتاتورية التي تحكمها أنت، وإما بالفوضوية؛ إذ لا قيمة لحرية وحقوق فريق تضيع معها حرية وحقوق فريق آخر، وإلا لعدنا مرة أخرى إلى زمن قهر جديد يحتاج إلى ثورة جديدة. وهذا يعيدنا إلى نظرية الأستك، التي هي في واقعها هدم تام لكل أصول وقواعد الحرية والحقوق، فمن حقك أن تعترض، ولكن ليس من حقك أن تقهر حق غيرك أو تدمّر ممتلكاته وتهدر حقه لمجرّد أنك تعترض، من حقك أن تطالب، ولكن ليس من حقك أن تخرّب ولا أن تسعى حتى لهذا.. باختصار، من حقك أن تكون حرا وأن تمارس حريتك، ولكن في حدود حرية الآخرين. هذه هى الحرية، اقبلها كلها أو ستخسرها كلها، لا يوجد حل وسط. والأهم أن تدرك لماذا أنت حر، ولماذا وبماذا تطالب، وأن تعقلها وتدرسها وتستوعبها بفهم ووعى ودون انفعال، ثم تتوكّل على الله سبحانه وتعالى.. ليطرقع الأستك.. بجد.