هذا آخر مقال كتبته فى «الدستور» قبل عملية اختطافها. كان عنوانه «هل سرق النصر...؟». أعيده اليوم أملا فى إعادة الأسئلة، وفى معرفة ماذا تغير؟ ولأقرّب الإجابة أو لأشارككم فى محاولتى الإجابة: أنا أرى فرقا كبيرا بين أكتوبر 2010 وأكتوبر 2011. أرى الشعب موجودا فى قلب الميدان بعد أن كان فى الخلفية.. وأرى محاولة انتصار من نوع جديد باستعادة روح أكبر من نصر عسكرى أو استعادة أرض محتلة... وعندى ملاحظة أخرى: فى أكتوبر 2011 تخلصنا من الاستعمار الوطنى ونعيش الآن دوخة المنتصر.. وأتمنى أن لا نسمح لأحد بسرقة الانتصار.. منتهزا فرصة الدوخة.. وأخيرا هذا هو ما كتبته فى أكتوبر 2010: «من استفاد من نصر أكتوبر؟ هل يمكن التفكير قليلا فى ظل نشوة الاحتفال؟ إلى أين سارت التغييرات بعد النصر؟ هل عرفت مصر لماذا هُزمت؟ هل عرفت من المسؤول عن هزيمة 76؟ عبد الحكيم عامر؟ عبد الناصر؟ أم أنه النظام كله...؟ السؤال قائم رغم النصر. بل إن هزيمة يونيو حاضرة رغم قدرة الجيش المصرى على تجاوز آثار الهزيمة العسكرية. هل انتصر الجيش على الجبهة واستمرت هزيمة المجتمع؟ ربما أدرك قادة الحرب دروس العبور من الهزيمة إلى النصر، لكن كيف كان انعكاس النصر فى المجتمع؟ هل سرق؟ هل استفاد المجتمع من النصر شيئا سوى الأغانى... الأغانى هى حبوب منشطة لقوى مكسورة.. منهكة.. عاجزة.. هل كنا نغنى للنصر.. بينما الهزيمة تأكل أرواحنا وتشلّ حركتنا؟ لماذا بعد أكثر من 37 سنة من النصر ما زالت الهزيمة ساخنة.. طازجة؟ هى المسؤولة عن كل شىء: ارتفاع الأسعار... الديكتاتورية... توحش التطرف الدينى.. الفتنة الطائفية... وحتى العجز الجنسى... لماذا لم يمنح النصر قوة للمجتمع الذى انتصر؟ حتى اليوم لم تهتم جهة بإعلان المسؤولية عن الهزيمة.. حامت التهمة على شلة الحكم وقتها. لكن لم يملك أحد الشجاعة لإعلان المسؤول ومحاسبته. حاول عبد الناصر إعلان المسؤولية بشكل فردى... وعلى طريقة الفرسان... لكن الشعب تعامل بشكل عاطفى وخرج فى مظاهرات التنحى يطالبه بالاستمرار. كان المشهد عاطفيا: قائد مهزوم يعلن أنه مسؤول. وحشود شعبية تخرج لتمسح العار عن زعيمها. يسيطر عليها إحساس اليتم. والتعاطف مع أب فى لحظة ضعف. أين الدولة؟ وماذا تفعل مؤسساتها؟ ألم تكن هناك قيم أكثر تأثيرا من هذه المشاهد الأقرب إلى البدائية؟ الغريب أن إنجاز أكتوبر الأساسى هو شحن حيوية الدولة المهزومة. خرجت الدولة قوية. الرئيس السادات عاد بطلا عسكريا. وصاحب معجزات. لكنه أعلن فجأة ورغم النصر أن 99٪ من أوراق اللعبة فى يد أمريكا. واعتبرت هذه الجملة هى حجر الأساس فى واقعية سياسية جديدة تنهى زمن الشعارات الرنانة. لكن غالبا واقعية السادات لم تتحرك خطوات أبعد من عاطفية عبد الناصر. دولة الاستبداد استمرت. الفارق الوحيد أنه بعدما كان المستبد عادلا... تخلى عن العدل.. وترك المجتمع غابة الانتصار فيها للأقوى. جمهورية الخوف استمرت، وهذه كانت أساس الهزيمة. منع الخوف الناس من محاسبة المسؤول عن الهزيمة. ومنعهم من مواجهة قائد الانتصار وهو يقتله قبل أن يتحول إلى روح جديدة تغير الدولة، وتصلح شرخ الهزيمة. هزمتنا جمهورية الخوف قبل أن تهزمنا إسرائيل. هذه الفكرة تستحق البحث الآن وبقوة. أجهزة الاستبداد حولت الحياة إلى رعب دائم... وتحالفت تماما مع وحوش الفساد.. لتعود الدولة كلها إلى الوراء. الدولة التى ارتبطت بحلم مغامرين (من محمد على إلى جمال عبد الناصر) ظلت أسيرة المغامرة ولم تتحول إلى حقيقة تعبّر عنها مؤسسات فوق الجميع. إسرائيل كانت حلم «عصابات» صغيرة مشردة فى العالم كله. لكنها أدركت أنها لن تستمر.. وتبقى فى محيط سيظل يعاديها ويكرهها.. ويتعامل معها على أنها «كيان غير طبيعى».. أدركت أنها لا بد أن تكون دولة مؤسسات لا أحد فيها فوق القانون ولا المصلحة. لم نتعلم الدرس. ولم نحارب العدو بأسلحته. وتركنا الحلم يتسرب بطريقة مثيرة للدهشة. نكتفى بالبكاء.. وحفلات لطم الخدود... والشعور المتضخم بأن الهزيمة قدر.. لا يمكن الإفلات منه. لم نعد نتوقع سوى الهزائم. وإسرائيل المرعوبة والخائفة.. ترعبنا وتخيفنا بشكل لم يستدعِ التفكير لكنه استدعى التواطؤ معها ضد مصلحتنا.. والاكتفاء بلعنتها فى السر...».. انتهى المقال.. وأعتقد أننا نعيش لحظة مختلفة ليس فقط لأننا لأول مرة ومنذ 30 سنة دون مبارك وأوهام ضربته الجوية.. ولا لأن الاحتفال اليوم بنفاق أقل.. صحيح حاولت صحيفة البحث عن بطولات المشير.. لكن المزاج العام ضد مصادرة النصر أو استبعاد الجيش من نصر دفع ثمنه من عمر مجنديه وتحملهم 7 سنوات على خط النار توقفت فيها حياتهم تماما، انتظارا لهذه اللحظة. لحظة عبور الهزيمة. أكتوبر 2011 يأتى ونحن نعبر من الاستبداد إلى الديمقراطية.. وهذا أصعب كثيرا، لكننا حطمنا فيه سدودا أعلى من خط بارليف.. ونزّلنا رئيس العصابة من قلعته وفتحنا شرفة القصر العالى واقتحمنا الميادين.. لنفرج عن حرية محبوسة 30 سنة.. الغريب أنها محبوسة باسم نصر عزيز على الشعب. السلطة فقدت مصداقيتها نهائيا اليوم.. ولن تبيع لنا سلطة بعدها الأوهام. .. وفى أكتوبر 2011 نقول لمن يجلس فى مقعد الحاكم.. لن نشترى منك الأوهام.. ولن نصاب بالرعب من جبروتك.. ونختبئ فى الخنادق.. نحن تغيرنا.. نعم تغيرنا، وسنبنى مصر جديدة.. كل سنة ونحن نبحث عن انتصار.. ونخيف من يحاول سرقة النصر منا؟ مقال حماسى.. استغربت نفسى وأنا أضع نقطة النهاية فيه.. لكن «وماله؟».