لى.. بكل تواضع.. ذكريات شخصية بسيطة مع الزعيم.. الذى لا زعيم غيره. جمال عبد الناصر وذكريات مع القائد والزعيم والرئيس والأب والأخ والابن لكل المصريين. كنت سكرتيرا لتحرير مجلة «التحرير» التى صدرت برخصة باسم جمال عبد الناصر فى أواخر سنة 1952.. وكان أول رئيس تحرير لها هو الدكتور ثروت عكاشة، وجاء بعده أحمد حمروش ثم سامى داوود ثم عبد العزيز صادق، وفى أواخر الخمسينيات كان المد الثورى فى العالم العربى قد بلغ مداه.. والدول العربية والإفريقية وبعض الدول الآسيوية قد بدأت تستيقظ من سباتها العميق.. بعد أن قاد عبد الناصر ثورة 1952 ضد الاستعمار والاستغلال. سنة 1957 أو 1958 قامت ثورة الأردن ضد الحكم الإنجليزى وبالذات هذا الجنرال جلوب.. وتقرر أن يرحل جلوب لتهدئة الثوار.. ولكن عُين بعده الجنرال تبلر الإنجليزى أيضا.. وكنا قبيل عيد الأضحى ولم يكن رئيس التحرير عبد العزيز صادق موجودا، وكنت أتولى كتابة الافتتاحية بإمضاء المحرر، وفى ليلة طبع الملزمة الأبيض والأسود آخر ما يطبع من المجلة جلست أكتب الافتتاحية، ووجدته مناسبا حسب لهجة الخطاب السياسى فى ذلك الوقت أن تكون الافتتاحية بعنوان «خروف العيد».. وأرسلت العنوان إلى خطاط المجلة الحاج جمعة، وأرسلت المقال إلى سكرتير التحرير ليرسله إلى الجمع بعد اختيار البنط المناسب.. وكتبت على طرف الصفحة الأولى «تُختار صورة مناسبة». وألقى سكرتير التحرير صلاح صادق شقيق رئيس التحرير نظرة سريعة على المقال.. وطبعا كان الاسم الأبرز فى المقال كله هو اسم جمال عبد الناصر. كانت الساعة قد تجاوزت الرابعة صباحا وكنت مرهقا وجائعا وبلا سجائر.. وكان المفروض أن أنتظر لأعطى الموافقة على الملزمة قبل الطبع، ولكنى قررت العودة إلى البيت، وكانت المواصلات العامة قد توقفت ولم يكن معى من النقود ما يكفى لركوب تاكسى.. وكان المبلغ نحو عشرة قروش.. تصور! ولكن لم يكن معى قرش واحد. نزلت إلى الشارع ومشيت من شارع نجيب الريحانى مقر المجلة إلى ساحل روض الفرج حيث أسكن.. وكنت قد تزوجت قبل شهرين من هذه الأحداث.. كانت زوجتى رحمها الله تنتظرنى حتى أعود من العمل مهما تأخرت. وصلت إلى المنزل نحو الخامسة صباحا.. أكاد أسقط إعياء أو جوعا، وكانت زوجتى فى انتظارى، وسارعت لإعداد الإفطار بينما دخلت أنا إلى الحمام.. ولم أكد انتهى من الحمام وارتداء ملابسى الداخلية حتى كانت زوجتى تمر بالصالة تحمل طعام الإفطار... ... وإذا بجرس الباب يدق بإلحاح.. تبعه خبط عنيف على الباب، وسارعت زوجتى بفتح باب الشقة، وهى تصرخ فى القادم السخيف.. وإذا بالقادم السخيف هو الشرطة العسكرية المكونة من ضابط وجنديين.. دخلوا جميعا، وسألنى الضابط: هل أنت محمود سالم؟ فقلت له: نعم.. قال: تعال معنا! سألت: ما السبب؟ قال: ستعرف بعدين! قلت: تسمح لى أفطر؟! قال: بعدين.. بعدين! ثم التفت إلى زوجتى وقال: ما تخافيش، بعد ساعة هيرجع! وسارت السيارة الجيب مخترقة شوارع روض الفرج ثم شارع رمسيس، وسرعان ما كنا عند دار التحرير الجمهورية. وصعدت السلالم إلى الدور الثالث حيث يقع مكتب الوزير.. وكان أنور السادات هو المدير العام ونسميه الوزير. فى غرفة السكرتير كان محمود السعدنى وزوج شقيقة جيهان السادات، ولا أذكر اسمه، ومحرر من الجمهورية كان مشهورا بأنه من الإخوان المسلمين. وصاح محمود السعدنى فى وجهى: إنت عملت إيه يا ابن (...). قلت له: ماعرفش.. وقبل كل شىء عاوز أفطر.. وسجاير! وسرعان ما جاءت ساندوتشات الفول والطعمية ثم شربنا الشاى وأشعلنا السجاير. ووصل السيد الوزير ودخل مكتبه ودُعيت لمقابلته.. كان أنور السادات يشعّ عافية، وقد ارتدى يونيفورم البحرية الأبيض، وكان يشعل البايب وهو يفتح عددا من المجلة أمامه.. رفعه أمامى فوجدت صورة جمال عبد الناصر وتحتها عنوان بالخط الأسود العريض «خروف العيد». وقال السادات بصوت صارم: إنت اللى كتبت ده؟! وحاولت شرح الظروف ولكنه عاود السؤال: إنت اللى كتبت ده؟! فأجبت بالإيجاب، فقال: تروح يا أفندى تروّح.. وما ترجعش هنا إلا لما نستدعيك! ■ ■ ■ ■ استدنت قروشا من الزملاء محمد العزبى وحمدى قنديل وأحمد بهجت وماجد عطية، وركبت تاكسيا وعدت إلى منزلى وبقيت محدد الإقامة فى منزلى، وعشنا أنا وزوجتى على مرتبها البسيط وبعض القروض من أسرتها.. وفشلت جميع المحاولات فى إعادتى إلى عملى.. وقررت أن أكتب رسالة إلى جمال عبد الناصر أشرح له ما حدث.. ولم أتوقع أبدا ما سيحدث.. فذات صباح دق جرس باب منزلى، وكان الزائر من الزمن الجميل.. كان الصاغ (الرائد) محمود عطية، وكنت أعرف أنه ضابط فى الأسلحة الصغيرة.. ولكنه كان يلبس الملابس المدنية.. وبعد السلام الحار، أخرج محمود من جيبه مظروفا وضعه فى يدى وقال: من الرئيس.. وهو يرجو أن يصبح سرا.. ويرجو أن تعود إلى عملك غدا. هناك تفاصيل كثيرة قد تطيل السطور بأكثر مما ينبغى، ولكن رويت قصتى فى جلسة حميمية للصديق الدكتور جابر عصفور فروى لى قصة مماثلة حدثت له مع عبد الناصر تتطابق تقريبا مع قصتى.. ومن الأفضل أن يكتبها الدكتور عصفور إذا شاء. ثم كانت لى حكاية أخرى مع عبد الناصر العظيم، ولكن أتركها لمناسبة أخرى. وقد سألت السيد سامى شرف عن هذه الواقعة فقال إن المبلغ كان سلفة على مرتب الرئيس.