كان يحب عمل الخير كثيرًا في الخفاء، ويطرق أبواب الأهالي ليلا قبل أن يعطيهم «ما فيه النصيب»، ويدون أسماءهم لعمل مساعدات في ما بعد من خلال قائمة يتولى رعايتها خاله بالقرية رجل متأنق يلبس معطفًا أسود طويلا، لونه يماثل أستار الليل التي انسدلت على القرية عشية عيد الأضحى بمنتصف ستينيات القرن الماضي، دلف إلى مسجد القرية لصلاة العشاء، وما أن انتهت الصلاة حتى هَم واقفا ليفاجأ بأحدهم ينفض عن المعطف غبار الأرض وتراب القرية. وبينما تلوح ابتسامة «الأفندي» يبادر نافض الغبار بسؤال، دون كلمات، عن ماهيته وما يبحث عنه، لكن المبتسم يربت على كتفه طالبًا آخر ما قد يخطر على بال الفلاح البسيط: «ممكن أطلب منك طلب لو سمحت، تمشي معايا ربع ساعة لوجه الله». الطلب أثار دهشة مفاجئة علت قسمات ابن القرية قبل أن يهز رأسه بعلامة الموافقة، ويسحب نعله متأبطا يد المتأنق، يحث الخطى على الاستجابة، لكن بضع خطوات إضافية حملت طلبا مفاجئا آخر على لسان الغريب: «وديني عند بيوت الناس الغلابَى». سهم الرجل على أثره لبضع لحظاتٍ قبل أن يعيد الطلب كمن يريد أن يحفظه، الطلب أثار دهشة مفاجئة علت قسمات ابن القرية قبل أن يهز رأسه بعلامة الموافقة، ويسحب نعله متأبطا يد المتأنق، يحث الخطى على الاستجابة، لكن بضع خطوات إضافية حملت طلبا مفاجئا آخر على لسان الغريب: «وديني عند بيوت الناس الغلابَى». سهم الرجل على أثره لبضع لحظاتٍ قبل أن يعيد الطلب كمن يريد أن يحفظه، لكنه في النهاية استجاب كما فعل في المرة الأولى، وأخذ صاحب الطلب إلى شوارع وأزقة القرية يطرق أبوابًا فيظهر أصحاب بيوتها من فورهم يستفسرون، لكن صاحب المعطف كان يرد دائما بابتسامة ويده تمتد حاملة مبلغًا من المال لا يعرف قيمته إلا الله ومَن تتلقفه يداه، وما أن ينتهي، يسأل الفلاح عن اسم صاحب البيت الذي مر عليه ويقوم بتدوين اسمه في ورقة تجاور قلمًا بجيب المعطف. مسيرة الربع ساعة امتدت لنحو الساعة وأكثر، قبل أن يتوقف الثنائي عند آخر بيوت القرية المعروف صاحبها بأنه من بين «الغلابى»، لكن طلبا ثالثا تردد فجأة على شفاه الغريب: «ممكن توديني عند بيت الحاج متولي عماشة». هنا ثار فلاح القرية بعدما كان مستكينًا طوال الرحلة التي جابت شوارع قريته، حيث ظل قرابة الساعة يستمع وينفذ دون استفسار كمَن يسير في قصة الخضر وسيدنا موسى، لكن اسم الحاج متولي عماشة أثار حفيظته وتجرأ أخيرًا على الرفض موجهًا ذلك لصاحب الطلب: «قلت لي ربع ساعة لله، لفينا ساعة وأكتر، طلبت نروح بيوت الغلابى ساعدتك لوجه الله، لكن بيت الحاج متولي عماشة دا شوف حد غيري يوديك هناك، دا خال الفنان عبد الحليم حافظ، وممكن لو أزعجته في الوقت دا يضربني بالمركوب». ابتسامة جديدة علت قسمات الغريب، يحث ابن البلد على استكمال معروفه: «كمل جميلك لله يا أخي»، فما كان من الرجل إلا الانصياع لطلبه وهو يدعو الله ألا يتسبب في إزعاج أشهر رجال القرية وأقربهم صلة للفنان الكبير، وعندما طرق باب البيت أجابه صوت الحاج بنفسه مستفسرا: «مين؟»، ليرد الطارق: «أنا عبد العزيز الغمري يا عم متولي ومعايا ضيف غريب عن البلد ما أعرفهوش». فتح الحاج متولي عماشة باب بيته وعينه تسبق لسانه يستفسر عن الغريب حاملا كلوب «بترو موكس»، ليطالع الغريب الذي لم يكن سوى نجل شقيقته الفنان عبد الحليم حافظ، فيبتسم الحاج قبل أن يعود حاملا سؤاله إلى ابن قريته، لكن قبل أن يستفسر عن مدى معرفته بالفنان من عدمها، فوجئ عبد العزيز بصاحب المعطف يدفعه برفق، حاثًّا إياه على دخول البيت. ازدرد عبد العزيز لعابه ويده تحك رأسه بسؤال عن كيفية أنه لم يعرف الفنان الشهير، وما أن فرغ من الإفصاح عن مسيرتهما على بيوت الفقراء حتى صاح الحاج: «الله أكبر الله أكبر، إنت عملت خير أكتر من عبد الحليم والله يا عبد العزيز»، بينما اكتفى حليم بتقديم ورقة الأسماء إلى خاله لتنضم لكشف من يستحقون مساعدات شهرية، لكن الخال ذكّر ابن شقيقته بأن يعطي «عيدية» لرفيق دربه ورحلته لبيوت أهل القرية، إلا أن عبد العزيز رفض ذلك بشدة، مُعللا الرفض بأنه وأبناءه ليسوا بحاجة إلى عيدية أو ما شابه. الرفض لم يلقَ بالا من الفنان المبتسم، ليمد حليم يده بالعيدية لعبد العزيز، والتي وصفها الأخير ب«20 جنيها طويلة من بتاعة زمان»، انصرف على أثرها من البيت تاركًا الفنان وخاله يتسامران في ليلة العيد، وما هي إلا أيام فصلت بين العيد وافتتاح الوحدة الصحية بالقرية، والذي حضره كبار رجال الدولة وقتها برئاسة علي صبري، رئيس وزراء مصر آنذاك، وخلالها عرف عبد العزيز الفنان وسط ضيوفه من الوزراء و«كبارات البلد» لكنه اكتفى بالإشارة مبتسمًا في ذكرى ظل يحفظها صاحب ال88 عامًا على مدار نحو نصف قرن من الزمان قبل أن يبوح بها ل«التحرير».