رغم أن عيني طه حسين أصيبتا بالرمد وهو في عمر الثالثة، ما أطفأ النور فيهما إلى الأبد، فإن الله عوضه ببصيرة نافذة، جعلته عميدًا للأدب العربي الحديث بينما تظهر بوادر الديمقراطية والحرية في البرازيل، في 15 نوفمبر 1889، ويتم إلغاء العبودية والرق ويُعلن النظام الجمهوري، كانت مصر أيضًا على موعد مع مولد أحد محرري فكرها، وعلم من رواد تنويرها، وكاتبيها العظام، عميد الأدب العربي الحديث طه حسين، المولود في محافظة المنيا بصعيد مصر، حيث كان ترتيبه السابع بين ثلاثة عشر طفلًا في أسرة من الطبقة المتوسطة، وسرعان ما أُصيب في سن مبكرة بعدوى في العين، وبسبب سوء التعامل الصحي مع حالته تعرض للعمى، وكان عمره آنذاك ثلاث سنوات فقط، لم يكن يعلم أنه سيُضيء بظلمته تلك عقول الملايين. وكغيره من أطفال قريته "الكيلو"، تم إلحاق طه حسين بالكُتَّاب، حيث فاجأ شيخه محمد جاد الرب، بذاكرة حافظة وذكاء متوقد، فتم إلحاقه بالتعليم الأزهري عام 1902، وقضى به أربعة أعوام، إلا أنه شعر أنه قضى أربعين عامًا وليس أربعة أعوام وذلك بالنظر إلى رتابة الدراسة، وعقم المنهج، وعدم تطور الأساتذة والشيوخ وطرق وكغيره من أطفال قريته "الكيلو"، تم إلحاق طه حسين بالكُتَّاب، حيث فاجأ شيخه محمد جاد الرب، بذاكرة حافظة وذكاء متوقد، فتم إلحاقه بالتعليم الأزهري عام 1902، وقضى به أربعة أعوام، إلا أنه شعر أنه قضى أربعين عامًا وليس أربعة أعوام وذلك بالنظر إلى رتابة الدراسة، وعقم المنهج، وعدم تطور الأساتذة والشيوخ وطرق وأساليب التدريس، على حد قوله، فغادر الأزهر مطرودًا ومغضوبًا عليه. كان طه حسين أحد أوائل المنتسبين إلى الجامعة المصرية تحت حكم الاحتلال البريطاني عام 1908، وفيها درس العلوم العصرية، والحضارة الإسلامية، والتاريخ والجغرافيا، وعددًا من اللغات الشرقية كالحبشية والعبرية والسريانية، حتى تخرج فيها في عام 1914، حيث حصل على أول دكتوراه منها مع أطروحته عن الشاعر أبو العلاء المعري. قرر طه حسين مبكرًا بأطروحته "ذكرى أبي العلاء" أن يخوض معارك ضد الفكر التقليدي الذي تعلمه، وتعرّض لموجة عالية من الانتقاد، ثم أوفدته الجامعة المصرية إلى فرنسا في عام 1914، وهناك أعد أطروحة الدكتوراه الثانية "الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون"، وحصل على الدرجة من جامعة السوربون في عام 1917، كما اجتاز دبلوم الدراسات العليا في الحضارة الرومانية من الجامعة ذاتها بعد عامين. وفي فرنسا تزوج بالسيدة سوزان بريسو، وكانت الرفيقة المخلصة التي كان لها عظيم الأثر في مسيرته العلمية والأدبية، لم تكن تنظر له على أنه كفيف بل شخصية عظيمة ومرموقة، ورُزق منها باثنين من الأبناء "أمينة - مؤنس"، وظلت معه خلال رحلة حب ممتدة ل56 عامًا حتى وفاته. "منذ سمعت صوتها لم يعرف قلبي الألم".. طه حسين عن زوجته وفي 1919 عاد طه حسين إلى مصر، حيث تم تعيينه في نفس العام أستاذًا للتاريخ اليوناني والروماني في الجامعة المصرية، ثم أستاذًا لتاريخ الأدب العربي بكلية الآداب، وكان متأثرًا بالثقافة اليونانية التي درسها، وكانت هناك صلة كبيرة بينها وبين فكره، وجاء كتابه الأول "الصفحات المختارة" من الشعر اليوناني الدرامي عام 1920، وفي العام التالي طرح مجلد "النظام الأثيني" تناول فيه التأثير الديني على الفكر في العصور الوسطى، و"قادة الفكر" في عام 1925، وغيرها من الكتب التي أثرت بشكل كبير على الأدب الكلاسيكي العربي الحديث. اصطدمت أطروحات طه حسين الفكرية بالأفكار التقليدية السائدة في مصر آنذاك، فحصدت العديد من مؤلَفاته هجوما كبيرا وصل إلى حد الدعاوى القضائية، وبلغ العداء بينه وبين الأزهر الذروة، خاصة إبان معركة كتاب "الإسلام وأصول الحكم" عام 1925، للشيخ علي عبد الرازق، الذي يُعتقد أن طه حسين كان المحامي عن هذا الكتاب، وكان شريكًا في تأليفه، واتجه للنشر في الصحف بعد طرده من منصبه كأستاذ للأدب العربي الكلاسيكي في الجامعة المصرية، وذلك نتيجة لرد فعل الجمهور على كتابه الأشهر "في الشعر الجاهلي" (1926). كما خاض العديد من المعارك الأدبية مع كبار الكتاب في عصره، ولعل أشهرهم الأديب عباس العقاد، الذي عارض طه حسين في رأيه حول رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، فنقده في مسألة وصف المعري بأنه "شاعر فحل"، وقد نشرت لهما مقالات تبادلا فيها النقد، ثم تشعب الأمر ليختلفا حول الأدب اللاتيني وغيره من الموضوعات، وانتهى الخلاف حينما دافع العقاد عن حسين خلال محنة الأخير مع كتابه "في الشعر الجاهلي". "كي يبث المعلم في نفس الطالب العزة والكرامة وحب الحرية والاستقلال، يجب أن يشعر هو أولاً بذلك، كما يجب أن يكون التعليم في تلك المدارس صالحًا أيضًا بحيث لا يتخرج منها معلمون جُهال".. طه حسين شنّ طه حسين العديد من المواجهات في سبيل التنوير، واحترام العقل والفكر، وتحرير المرأة، وكان يرى أن التعليم هو طوق النجاة الوحيد، يقول: "الغريب أن الحكومة تصلح في الألفاظ والنظريات ولا تحاول أن تصلح جوهر التعليم، ولا تفكر في هذه الفروق العقلية العنيفة التي تُقسم الأمة الواحدة إلى فرق متمايزة يجب أن تُزال وتقوم مقامها وحدة عقلية". في عام 1932 وصل طه حسين إلى منصب عميد كلية الآداب، وفي عام 1942، عُيِّن طه حسين مستشارًا لوزير المعارف، ثم مديرًا لجامعة الإسكندرية، وفي 1950 أصبح وزيرًا للمعارف، وتمكن من وضع شعاره "التعليم كالماء الذي نشربه، والهواء الذي نتنفسه" حيز التنفيذ، ونجح في جعل التعليم الابتدائي والثانوي متاحًا للجميع، ورفع أجور المعلمين، وكان له الفضل في تأسيس عدد من الجامعات المصرية، وفي 1959 تسلم رئاسة تحرير جريدة "الجمهورية". "إن المعلم أمين على أبناء الشعب، ومسئول عن هذه الأمانة أمام الشعب والدولة. ولثقل هذه الأمانة فمن حقه على الشعب والدولة أن يجد عندهما المعونة على تأديتها، وهذه المعونة تتلخص في أن الدولة ملزمة أن تُهيئ المعلم تهيئة صالحة وأن تعني بالمدارس والمعاهد التي تُخرج للتعليم الأوليّ رجاله، ولا بد أن تكون مدارس المعلمين صالحة كأحسن ما يكون في حياتها المادية والمعنوية".. طه حسين وتعد "الأيام" أشهر رواياته التي سرد فيها سيرته كاملة، وتحولت إلى مسلسل قام ببطولته الراحل أحمد زكي عام 1979، سيناريو وحوار أمينة الصاوي، بالإضافة إلى "دعاء الكروان" التي عالجها في سيناريو بنفس الاسم عام 1959، لتصير فيلمًا يعد من أهم كلاسيكيات السينما المصرية عبر تاريخها، ويمكن تقسيم أعماله إلى فئات ثلاث، الدراسة العلمية للأدب العربي والتاريخ الإسلامي، والأعمال الأدبية الإبداعية مع المحتوى الاجتماعي لمكافحة الفقر والجهل، والقوانين السياسية. رغم أن عيني طه حسين أصيبتا بالرمد، ما أطفا النور فيهما إلى الأبد، فإن الله عوضه ببصيرة نافذة، وذهن وعقل ذكيين متفتحين، وكان مُلهما لأجيال من خلفه على أفكار ما زلنا ننهل منها، وقدّم له الرئيس جمال عبد الناصر جائزة الدولة العليا، التي تُقدم عادة إلى رؤساء الدول، وفي عام 1973، حصل على جائزة الأممالمتحدة لحقوق الإنسان، وبعدما نال الأديب جائزته الأخيرة، وشاهد نصر بلاده في حرب أكتوبر المجيدة على العدو الأبدي إسرائيل، توفي العميد طه حسين في منزله 28 أكتوبر 1973.