كاتبة، ناقدة وباحثة سينمائية . شاركت في تأسيس صحيفة الأسبوع المصرية وكتبت في مجالات عدة بها وشغلت منصب رئيس قسم الفن ونائب رئيس التحرير. من يدين جريحتين تدق مساميرها في خشب النورج يتسلل الحزن إلى عينين ثاقبتين في وجه الرجل العجوز، ثم يملأ الكادر في بداية فيلم أمينة (التجربة الأولى للفنان أيمن زيدان كمخرج سينمائي؛ والعرض الأول في مهرجان الإسكندرية لسينما البحر المتوسط)، والحزن هنا ليس بوصفه سوداوية شخص وحيد، بل حالة عامة يشترك فيها مجتمع كامل، حتى الطبيعة التي يدور فيها العجوز والحصان ب"النورج" على أعواد القمح من يدين جريحتين تدق مساميرها في خشب النورج يتسلل الحزن إلى عينين ثاقبتين في وجه الرجل العجوز، ثم يملأ الكادر في بداية فيلم أمينة (التجربة الأولى للفنان أيمن زيدان كمخرج سينمائي؛ والعرض الأول في مهرجان الإسكندرية لسينما البحر المتوسط)، والحزن هنا ليس بوصفه سوداوية شخص وحيد، بل حالة عامة يشترك فيها مجتمع كامل، حتى الطبيعة التي يدور فيها العجوز والحصان ب"النورج" على أعواد القمح كما لو كان جزءا من لوحة لأحد رواد الرومانسية في الفن التشكيلي، إنه الحزن الذي ينعكس في الأنفس وتتسع معه اللوحة لتشمل الجميع: النساء بالملابس السوداء يتحركن صوب منزل العجوز بعد وفاته، شاب مبتورة ساقه وآخر يحمله معه على "موتوسيكل"، وثالث عاجز على سريره يتابع تفاصيل جنازة العجوز والده، بينما الأم تتخذ كما لو كان جزءا من لوحة لأحد رواد الرومانسية في الفن التشكيلي، إنه الحزن الذي ينعكس في الأنفس وتتسع معه اللوحة لتشمل الجميع: النساء بالملابس السوداء يتحركن صوب منزل العجوز بعد وفاته، شاب مبتورة ساقه وآخر يحمله معه على "موتوسيكل"، وثالث عاجز على سريره يتابع تفاصيل جنازة العجوز والده، بينما الأم تتخذ مكانها في اللوحة كوتد ثابت في بيتها تحاول الحفاظ على ثباتها؛ إذ تتشبث بحفيدها الصغير، وهكذا تصبح القرية الصغيرة صورة الحزن وجوهره. بهذا التجلي الشكلي يباشرنا الفيلم بشاعرية تذهب عميقاً إلى الموضوع، وتؤكد في الوقت نفسه على المسافة الهائلة بين الممثل الشاب أيمن زيدان مجسداً شخصية "أبو النور" في فيلم "أحلام المدينة" (1984) للمخرج محمد ملص، شاب مليء بالحيوية وتأجج المشاعر الوطنية يقف في دمشق وتحولاتها الاجتماعية والسياسية وتباشير الوحدة بين مصر وسوريا، و"أبو النور" يفيض فرحاً ويقول لصديقه الصبي "ديب": (بعمرك شفت القمر هيك يا دياب، الله بذاته مع الوحدة)، وبين المخرج أيمن زيدان الذي اتخذ حماسه منحى آخر ينبثق من الألم على الأحلام الضائعة، لكن هذا لا يجبره على التورط في الهزائم أو الاستسلام لها، وبالتالي فإنه لا يدفع المتفرج إلى برودة التأمل وإنما إلى الاصطدام بالحقيقة. جمال أي عمل يكمن في التفاصيل، لذا تبدو هناك صعوبة ما في اختزال القصة لتكون مجرد حكاية عن امرأة تواجه المتاعب والأطماع وتكاد تسحقها الحياة كحبة قمح تحت النورج، بعد موت زوجها وإصابة ابنها في الحرب ليصبح عاجزاً، فالفيلم يحتفي بالأمل رغم الحرب ويدعو إلى التشبث بالحلم، تقول الأم لابنتها "لا تتخلي عن أحلامك"، هذه الدعوة التي ظهرت في أكثر من موضع بالحوار كأنها تعويذة لحماية الروح من تأثيرات الحرب، كما أمينة المرأة الصامدة التي لم تقدر عليها الحرب، من هذا المنطلق شيّد أيمن زيدان بمشاركة الكاتبة سماح القتال بناءه الفني بكل ما يملكه من حب وغضب وألم، ورسم واحدة من أجمل اللوحات السينمائية المنغمسة بكم هائل من المشاعر المؤثّرة والمواقف الصادمة، متكئاً على نمط بصري خاص بها، تميّز بإعلاء الشأن الإنساني والحياتي على ما عداه أحياناً أخرى. هناك مشاهد مؤثرة وجميلة، بدت لي كأنها الانعكاس الأقوى لتلك المخيّلة الإبداعية التي حفز "زيدان" ثقافته الواسعة فيها: المشاهد التخيلية للأم والابن، مشهد الغُسل للأب الميت والاستحمام للابن العاجز، وغيرها من مشاهد ذهبت إلى أقصى التعابير البصرية الصامتة، وقوّة الغضب والرغبة في الانعتاق من الوجع والتمزق، وهو ما شكل مفتاحاً لفنان ارتبط بالناس وبأحلامهم وانكساراتهم، ولديه الكثير من أسئلة الوجع. قد يأخذ البعض الإيقاع المتمهل في الفيلم كمشكلة في المونتاج، لكني أراه مقصوداً مع مخرج يحاول أن يصنع توازناً بين جماليات الصورة والحكاية بنَفَس روائي يعلو في كثير من الأحيان ويعلو معه أداء الممثلين: جود سعيد، لمى بدور، قاسم ملحو، حازم زيدان، عبد اللطيف عبد الحميد و.. نادين خوري التي جسدت شخصية "أمينة"، ومن خلالها تغوص في الحزن والأمل ببلاغة الحكاية والصورة التي احتكمت إلى السينما، فتكوين الصورة عند أيمن زيدان يبدو امتداداً لكلاسيكيات السينما الروسية وجمالياتها؛ وهو الذي قدم في فيلمه تحية للسينما عموماً باعتبارها جزءا من وجداننا وتُعلمنا كيف نتواصل معاً كما جاء على لسان بائع الأفلام "عبد اللطيف عبد الحميد" وهو يحكي عن الفيلم الفرنسي "قناع الغوص والفراشة" لجوليان شنابل، مع سهيلة ابنة أمينة التي تبحث عن وسيلة للتواصل مع شقيقها سهيل الذي لا يملك سوى حركة عينيه لهذا التواصل، وغالباً ينظر من نافذته المفتوحة على الأفق الواسع ويشهد حلمه يتلاشى. يجلس بائع الأفلام وحده ليشاهد فيلم "سينما باراديسو" للإيطالي تورنتوري، هذا الفيلم الذي يدور في قرية صقلية صغيرة ومُشبع بالشجن والحنين وحب الحياة، وهو ما حاول "زيدان" تكريسه في فيلمه متحدياً الحرب التي نراها بشكلها المباشر، القنابل لا تسقط والرصاص لا يعلو، لكن صداها ينعكس على كل شيء، إنها حاضرة فعلاً وتأثيّراً ومعها تبدّلت الأحوال والناس، وهنا يكشف زيدان عن ملمح التغيير الذي اعترى المجتمع السوري إثر الحرب، والذي سيكون هو السؤال الوجودي الحائر للسوريين في المرحلة المقبلة، وذلك من خلال شخصياته المتباينة والتي طحنت الحرب أغلبها، فيما استفاد البعض منها مثل هذا التاجر الصغير الوضيع الذي يتاجر في كل شيء حتى الأخلاق، وإن كان هذا التغير سيترك أثره على الخارطة الاجتماعية السورية، فإن أيمن زيدان في فيلمه يحاول ألا يتخلى عن الحلم والأمل كتفاصيل تصنع شيئاً من التوازن الذاتي، حتى لا تتحول الحياة إلى عبء لا يُحتَمل.