لمى زيادة وجوه عديدة، متجددة، كلما برز شيء جديد فى سيرتها غير المكتملة بصورة مرضية تليق بها أو تلبى الفضول، وكلما حلت ذكرى ميلادها أو وفاتها يتجدد الحديث. قد يكون الجديد دراسة أكاديمية تبحث فى جانب من نتاجها الإبداعى والنقدى أو تفصيل من حياتها أو حياة من عرفت، قبل أشهر ذكر الكاتب الجزائري واسيني الأعرج، مرات عديدة، فى مقابلات صحفية للترويج لروايته الجديدة "ليالي إيزيس كوبيا- ثلاثة مئة ليلة وليلة في جحيم العصفورية"، التى تتضمن أحداثا متخيلة عن حياتها، أنه أمضى أكثر من ثلاثة أعوام في التنقيب عن المرحلة الأخيرة من حياتها إلى أن ضمّن هذا الجزء المرير في روايته، وهكذا يعاد رسم صور مى صحافيا وإعلاميا، ويكثر الحديث عن موضوعات "حريفة"، جاذبة، من نوعية "هؤلاء أحبوا مي زيادة". تعزل فيها بعض وقائع من حياتها عن سياقها لترسم صورة لأمرأة يحيطها رجال عظام، أحبوها جميعا بصور مختلفة بحسب طبائعهم الشخصية، فتبدو، أحيانا، وكأنها "ملكة النحل" التى يحيط بها الشغيلة الخاضعون، أو أنثى العنكبوت، ويبدو هؤلاء العظام وكأن لا شيء يشغلهم سوى الهيام بها.وتتنوع قوائم هؤلاء المحبين من بين من عرفوا تعزل فيها بعض وقائع من حياتها عن سياقها لترسم صورة لأمرأة يحيطها رجال عظام، أحبوها جميعا بصور مختلفة بحسب طبائعهم الشخصية، فتبدو، أحيانا، وكأنها "ملكة النحل" التى يحيط بها الشغيلة الخاضعون، أو أنثى العنكبوت، ويبدو هؤلاء العظام وكأن لا شيء يشغلهم سوى الهيام بها. وتتنوع قوائم هؤلاء المحبين من بين من عرفوا مي معرفة قريبة لسنوات عديدة متصلة، بعضهم كان منها بمثابة المعلم والموجه، لكن أغلبهم لم يك يكبرها إلا ببضع سنوات، من بين هؤلاء يبرز: أحمد لطفى السيد، طه حسين، مصطفى صادق الرافعى، الشيخ مصطفى عبدالرازق- شيخ الأزهر فيما بعد- عباس محمود العقاد، يعقوب صروف، والأب آنستاس مارى الكرملى، والأمير شكيب أرسلان، ود. أنيس المقدسى، وتوفيق الحكيم، وأحمد حسن الزيات، وخليل مطران، وخليل مردم، وفخرى البارودى وفارس الخورى، وقد راسلت كل هؤلاء جميعا وراسلوها، فكما نلاحظ من سيرتها فقد كانت كثيرة السفر بين مدن عربية ودول أوروبية عديدة، كما كانوا هم أيضا. الكثير من الكتاب والنقاد والصحفيين يضع كل هؤلاء فى جانب، ويضع جبران جليل جبران فى جانب آخر، ويؤكدون أنها لم تحب سوى جبران، أو أنها لم تحب أحد بقدر حبها له، وهناك جوانب من تلك الصور التى ترسمها الصحافة والمواقع الصحفية قد يكون واقعيا، لكنها بعزلها عن السياق العام لحياتها وعصرها ترسم صورا شائهة لمى، وهناك سمات فى حياتها وشخصيتها مماثلة لشخصيات نسائية عديدة سبقتها ورافقتها، لكن شخصية مى متكاملة فريدة فرادة مطلقة فى تاريخنا الأدبى الحديث. الصورة الشخصية الأكثر دقة وأمانة لمى ترسمها الباحثة سلمى لطفي الحفار الكزبري (1922 - 2006)، ففى الغلاف الخارجى للمجلد الأول للأعمال الكاملة لمى زيادة، الصادر طبعته الأولى عام 1978، نقرأ عنوان "النبوغ والمأساة"، وتبدأ التقديم بفقرة مأخوذة من كتاب مى: "عائشة تيمور، شاعرة الطليعة"، وكأنها تريد ان تقول أن هذه الفقرة تعبيرا عن صورة مى كما تراها بنفسها، أو أنها تعبير عن واقع المرأة العربية المثقفة الراغبة فى التحرر والمشاركة والمساواة: "أليس أشد دلائل القوة خطرا أن يظل النسر محلقا ولو مهشما داميا؟ أن يظل محلقا حتى بجناحين مهشمين داميين؟"، ثم تواصل التقديم: "النبوغ والمأساة. كلمتان تختصران حياة ميّ زيادة في شروقها وغروبها، قدر رحيم وقاسٍ رفع هذه الأديبة إلى قمة المجد ثم أرداها إلى هاوية الشقاء، كاتبة فذة أعطت للعلم والأدب والنهضة العربية الحديثة عمرها كله ولم تحصل على شيء اللهم إلا على أرفع مكانة في تاريخ الأدب العربي! نابغة شقيت بنبوغها كما لم يشق به أحد غيرها عبر العصور، أحاط بها عظماء عصرها وعلَّقوا على هامتها إكليل المجد وجفاها أهلوها ثم جاراهم كثير من أصدقائها بعد أن أدبر سعدها مما يدعو إلى القول إن من المفارقات العجيبة في بلادنا أن نحارب النبوغ ويُهان صاحبه، ولا سيما إذا تجلى في امرأة". منصور فهمي الذى كان أستاذا لمي في الجامعة المصرية، وأحد رواد ندوتها الأسبوعية الشهيرة التي كان يحضرها كبار أدباء مصر والأدباء الشوام فيها، وتصفه الكزبرى بأنه من أكبر المعجبين بمى، وأوفاهم لها، كتب يقول إن مى أصابتها "أعراضا تشبه الجنون وتلامسه". إذا وضعت تعبيرات مثل: "هؤلاء أحبوا مي زيادة"، بجوار وقائع من قبيل أن ندوة مى زيادة الأسبوعية - أو صالونها الأدبى بتعبير آخر- قد استمر لمدة عشرين عاما (1911- 1931) وحضره عشرات، وربما مئات، من كبار المفكرين والسياسيين والأدباء والشعراء من مصريين وعرب وأجانب، فقد يعتقد البعض أنه من الغريب أن تصف سلمى الكزبرى مى بأنها كانت "تعانى الغربة الفكرية، وحتى العاطفية فى حياتها"، لكنها إذا تحيل إلى فقرة من كلمة مى فى تأبينها لباحثة البادية، تبدو وكأنها تقدم تفسيرا معقولا: "يجب أن يكون الوسط راقيا جدا ليقدر الفرد الراقى وإلا أهمله، وعد نبوغه جنونا، ورأى فى توجعه من التقهقر والانحطاط وقاحة وشرودا". سنجازف بمحاولة رسم صورة سريعة لمى لمن لم يسبق له معرفتها، وسنخلص إلى بضع استنتاجات: مى وحيدة والديها، اسمها مارى، واختارت أن تدعى مى ووقعت به مقالاتها ورسائلها لنعومته وعلاقته الوثيقة بالتراث العربى- البعض يفسر أن ذلك بدافع طمس الملمح المسيحى الظاهر فى الاسم-، أبوها إلياس زخور زيادة، لبنانى من قرية "شحتول" بقضاء كسروان، سافر أوائل ثمانينيات القرن التاسع عشر إلى قرية الناصرة عاصمة الجليل بفلسطين وعمل معلما، ثم تزوج من فتاة فلسطينية من أصل سورى من الناصرة اسمها نزهة معمر، درست مى فى مدرسة الناصرة الابتدائية، وعند بلوغها الرابعة عشرة عادت إلى موطن أبيها كسروان، كى تتمكن من متابعة الدراسة فى دير الراهبات بعينطورة، وتخرجت فيه عام 1904، وعادت إلى أسرتها فى الناصرة، ثم انتقلت مع أسرتها إلى مصر عام 1908، دخلت الجامعة المصرية عام 1916 ودرست الآداب والفلسفة، وأتقنت خمس لغات محادثة وكتابة هى: الفرنسية والأنجليزية والأمانية والإسبانية إلى جانب اللغة العربية، وكتبت بهذه اللغات فى الصحف والمجلات. تولى أبيها إدارة جريدة "المحروسة"، ونشرت فيها، كما نشرت مقالات وأشعارا وترجمات فى مجلة "الدهور"، وفى جريدتى: "اسفنكس" و"إيجبشين ميل" الصادرتين بالإنجليزية، ثم عملت فى ثلاثينيات القرن العشرين محررة فى جريدة "الأهرام"، وخصص لها عمودان على الصفحة الأولى من الجريدة، ونشرت مقالات كثيرة فى مجلة "الهلال"، وفى جريدة "السياسة الأسبوعية" وفى جريدتى "أبوالهول" و"التقدم المصرى" الصادرتين بالفرنسية وفى جريدة "البريد المصرى" التى صدرت بالإنجليزية. أليس واضحا طبيعة بدايات حياتها: البيئة ذات النسيج المتجانس نسبيا بين لبنان وفلسطين وسوريا ومصر، العزلة عن الأسرة فى مدرسة الدير، التنقل بين المدن العربية، جاذبية القاهرة الشديدة، الأسس المعرفى واللغوى المتين، التنوع الثقافى.