كنت أقرأ باهتمام عن قائمة الهدايا ورسائل الطعام التى يتلقاها الكاتب الأمريكي هنرى ميللر* يوميا من معجبيه، والتي يذكرها فى كتاباته: إحدى فواكه الصيف النادرة كحبات الكمثرى، أو إحدى الفطائر الشهيرة كفطيرة التفاح، أو برطمان من مربى الكرز، أو بعض أقراص من الكعك، أو غيرها من صور التعبير العائلى عن الإعجاب. أهتم بشغف هؤلاء المعجبين الذين يرسلون أطعمة لكتابهم المفضلين، يبثون شيئا من ذواتهم، أو من تفاصيل وحرارة مطابخهم العائلية، ويشركون الكاتب فيها، باعتباره أحد أفراد العائلة. كان أحد المحبين لكتابتي، والذى أصبح أحد أصدقائى بعد ذلك، قد أرسل لى على عنواني فطيرة الجبنة بالفراولة بعد صدور روايتي الأولى. كانت أول هدية أتلقاها بها هذا النوع الحميم من الإعجاب. *** تعقبت شبح هنرى ميللر فى عدة أماكن. المكان الأول، عند ذهابه لليونان عام 1939 لمقابلة صديقه الروائى الإنجليزى لورانس داريل صاحب رواية "رباعيات الإسكندرية". هناك فى جزيرة كورفو يقضى ميللر عاما كاملا، بعد أن تندلع الحرب العالمية الثانية فى أثناء وجوده هناك فيضطر للمكوث. وسط هذه الشمس الجديدة ومع صداقة عميقة يقيمها مع أحد هؤلاء الغرباء -الذي يملك القدرة على اكتشاف معدنه الأصلي، "كاتسيمباليس" الشاعر اليونانى، وآخرين؛ كتب ميللر كتابه الفريد "عملاق ماروسى"، والذى يعتبر أحد أجمل أعماله. كتب يقول: "التأثير الأعظم الذى تركته اليونان علىَّ أنها عالم بحجم الإنسان، صحيح أن فرنسا تركت بي التأثير نفسه، ولكن ثمة فرقا عميقا، اليونان هى وطن الآلهة، قد يكونون موتى لكن وجودهم لا يزال يثبت نفسه. للآلهة أبعاد إنسانية". ربما كان يشير فى هذه الفقرة لصديقه الشاعر اليوناني ولآخرين قابلهم هناك ومنحوه قدسية صافية من ذواتهم الشمسية. عند ذهابي لجزيرة كورفو قابلت شبح ميللر متجسدا في هذا الضوء الذي يصفه في كتابه ب"نور الحياة الأولى". *** المكان الثاني الذى تتبعت فيه ميللر، وفشلت فى الوصول إليه، وهى فيللته فى "بيج سور" على الشاطئ وسط سواحل كاليفورنيا، كنت قريبا من بيته مسافة ست ساعات، حوالي 350 ميلا، وهي مسافة قصيرة وسط قارة كاليفورنيا. فى هذه الفيللا استضاف ميللر أحد الأشخاص الذين قابلهم في باريس في سنوات التسكع. ولأنه، ميللر، كان مدينا نفسيا وماديا وروحيا، لكل هؤلاء الذين ساعدوه هناك، فكان "تريكيان" ذلك الضيف السويسري، وفى هذا الموقف؛ هو مندوب هؤلاء الدائنين النفسيين والماديين والروحيين. قدمته له صديقته الناقدة والكاتبة "أناييس نن" التي أحبها ميللر، وتحولت مع الوقت لأيقونة حب لكتاب جيل القلق، إنساني النزعة، الذي ظهر ما بين الحربين. شيء آخر جذب ميللر إلى هذه الشخصية، وهو غرابته، فقد كان "تريكيان" عاطلا لا يعمل، فقد ثراءه وأصدقاءه، ولم يتبق من مواهبه، التي نجت بعد هذه العطالة المستمرة، إلا قراءة مسارات النجوم، والكشف عن القدر الذي يلازم الإنسان. كان هؤلاء الغرباء يمثلون له هذا الهامش الإنساني الذي لم يُستهلك، ولم تطبعه السلطة والنظام، أيا كانا، بطابعهما بعد. كان لتريكيان مطالب، مادية ومعنوية، تعود لفترة ثرائه، ويجب أن تتوفر حتى في أصعب الظروف، وهي إحدى السمات الغريبة والطريفة التي كان يتمتع بها هذا العجوز "تريكيان"، وربما التي أثارت شهية ميللر لاستضافته. لم يفقد الكبرياء والصلف اللذين يتعامل بهما، رغم أنه لا يملك شيئا. كان يمتص ميللر، نفسيا وماديا، يوما بعد يوم، طلبات إثر طلبات، تختص بالطعام والنبيذ حتى بودرة "ياردلي" التي تعود أن يرطب بها جلده. تذمر، شكوك، شكوى، هوس، بارانويا، استدانة، حوارات حول النجوم وخطتها فى إفشال إرادة الإنسان - أمام ميللر الذي كان يمنح الإنسان إرادة تساوي الإرادة الإلهية في تقرير مصيره. كان "تريكيان" يشكو من "الحكة"، ليس في جسمه فقط بل في روحه، وفي كل ما يأتي على باله من أفكار، كانت جميعها مسممة بالحكة، التوجس، نبش السطح الظاهري لإخراج أحشاء الأشياء والأفكار، والتى عادة ما تكون متعفنة، لأنه متشائم بطبعه، ومدمر لأي شخص متفائل مثل ميللر. *** كان تريكيان لا يحب السير على الرصيف الترابي لتلك البلدة، لأنه رصيف غير متحضر، ويوسخ حذاءه الثمين، وهو "إنسان مديني" لم يخلق للعيش في هذه الأحراش! كان ميللر يشير له دوما بأن علاجه من أمراضه وشكوكه ومخاوفه يكمن فى التمتع بهذه الطبيعة البدائية التى تحوطه من كل جانب، والثقة فيها، وفى قطوفها الدانية فى كل زاوية، والتى أطلق عليها "الجنة". ولأن "تريكيان" لم يتأقلم معها فسماه ميللر "الشيطان"، فى الكتاب الذى سيكتبه بعد ذلك يصف فيه علاقته به، وتلك الحالة من الخصام الذى لا براء منه: "شيطان فى الجنة". وينتهي الكتاب بخروج "تريكيان" من الجنة التي وفرها له ميللر، ليموت في أحد المستشفيات في باريس بعد أن عاش بعد خروجه من الجنة في البيت السويسري للمتقاعدين، مأى، فقد هرب جميع أصدقائه من مساعدته، إلا واحدا، الذي أدخله هذا البيت. *** أتوقف عند هذه الحالة من "الإيثار"، والتضحية من أجله بالمال والطعم والهدوء، هل كان فقط مادة ثرية للكتابة بالنسبة لميللر لذا استبقاه؟ هل هذا الإغراء يساوي مقدار التضحية التي قدمها؟ ولكن يبدو أن هناك ما كان يثير ميللر في استبقاء صاحبه جنبا إلى جنب مع رغبته في مساعدة الآخرين، لأنه يوما ما كان محتاجا للمساعدة. داخل خيال الكاتب كانت تتجاور التضحية مع رغبة الاكتشاف والفحص لهذا النموذج الإنساني الغريب، الذي كان يفضله ميللر. *** هناك محطة أخرى تتبعت فيها شبح هنري ميللر، ولكنها هذه المرة بدون مكان، في ذلك المدار الروحي الذي جمع كتاب القرن العشرين، وختم هذا القرن بسماتهم القلقة شديدة الإنسانية. هذا المدار الذي يجمع هنري ميللر ورامبو وديستوفسكي، وريلكة، وغيرهم وغيرهم. أعتقد أن روحي تتبعث بعض آثار روحه، مشت بجوارها أحيانا، وتلبستها أحيانا أخرى، ولكن بدون أن تقلدها، لأن روحه عملة أصلية لا تُقلد، مثل رامبو، وديستوفسكي وريلكه. كل هؤلاء عملات أصلية لا تُقلد. لقد منحني ميللر هذه الألفة والتعود، لكي أتفحص روحه عن قرب، وأتفحص تناقضاته، وعذاباته الشخصية. كان يكشف ذاته بكل أمانة مهنية، أمام بدايات قرن خائف يريد أفراده، إلا القلة؛ الاختباء والتستر على العدمية والخوف والعبثية التي أورثتها حربان عالميتان. *** في مثل هذه الأماكن التي أتتبع فيها شبح أحد الذين أحبهم، أحب أن أكون سائحا بمعنى الكلمة، هذا الغريب الذي يشعر بالدهشة لملاقاة الأثر ورؤيته، وكل ما أحاط به، ربما السائح يستمد قوته من شعور ديني يقف وراء رغبته في الاكتشاف، أن يعيد المشهد الغائب للأثر، الذي ارتبط به بعاطفة ما، أيا كان هذا الأثر شخصا أو مكانا أو مهبطا للوحي. ربما في أى إيمان يوجد هذا الجانب الوثني من الحب، هناك مكان لهذا "السائح الأبدي"، الذي يكن عاطفة للأثر المادي لأنه جزء من مشهد غائب، الجزء المتبقي من الحكاية التي مضت. كانت جزيرة "كورفو" ونورها هذا الأثر، وكانت "بيج سور" هذا الأثر، ويقف من خلفهما، في مكان ما، شبح هنري ميللر ليمنح هذا الأثر بعده الروحي، ليس هنري ميللر وحده، ولكن كل هؤلاء الكتاب الذين يسيرون في هذا مدار أرواح القرن العشرين، والذين صبغوا القرن بقلقهم الإنساني شديد الخصوصية، وشديد الصدق. كنت خلال تلك الزيارات ذلك "السائح الأبدي"، الطفل الذي بلغ الثامنة والخمسين الآن، ويقف على المسافة نفسها من الإعجاب التي يرى بها هذه الآثار الروحية لكتاب القرن العشرين، التي ستتحول بالفعل إلى آثار حقيقية مقذوفة في الزمن المستقبلي، الذي يدير لها ظهره. ................................................................ *هنري ميلر ولد (26 ديسمبر 1891-7يوليو 1980) روائى ورسام أمريكي. بدأ بتطوير نوع جديد من الرواية والتي هي عبارة عن خليط من القصة والسيرة الذاتية والنقد الاجتماعي والنظرة الفلسفية والتصوف. يجمع هنري بين نقيضين فهو يمتلك القدرة على التعبير الواقعي ثم لا تعدم وجود أفكار خيالية في أدبه. إثر وفاته تم حرق جثته، وتقسيم رماده بين ابنه توني وابنته فال. وقد صرح توني بأنه ينوي في نهاية المطاف أن يكون رماده مختلطا برماد والده وأن ينثر في بيته في "بيج سور" حيث عاش. أكثر أعماله تميزا هى "مدار السرطان"، "مدار الجدي"، و"ربيع أسود"، "رامبو وزمن القتلة".كتب ميللر أيضا عن أسفاره، ومقالات في النقد والتحليل الأدبي. ويكيبيديا – الموسوعة الحرة.