خيري بشارة.. ابن حي شبرا، حيث زخم التراث الديني والثقافي، تشبع بعالمه المحيط وأحس بهموم وطنه وعشق السينما، بدأ بالسينما التسجيلية وجاء منها ليقف في صف أبرز مخرجي السينما المصرية ويصبح أحد أفراد جيل المخرجين، الذين أعادوا تعريف الواقعية خلال السبعينيات والثمانينيات، بأسلوب حيوي رشيق يتأرجح في تجسيده الواقعي بين العقل والعاطفة ويُعمق التفاصيل ويبتعد قدر الإمكان عن البكائيات والفواجع، ويقف الآن في مكانة منعزلة قليلًا يتأمل رحلة الصعود وحصاد سنوات النجاح. النشأة من مواليد مدينة طنطا في 30 يونيو 1947، وعاش هناك إلى أن أصبح عمره خمس سنوات، ثم انتقلت أسرته إلى القاهرة، حيث تعمل ونشأ في شبرا، كان عاشقًا للسينما منذ صغره، ما جعله يدخل المعهد العالي للسينما، وتخرج منه عام 1967، وترتيبه الأول على دفعته، ليبدأ وعيه في التشكل على النكسة الكبرى التي شهدها شهر يونيو من هذا العام ، فحمل هموم الوطن وأراد أن يُغيره، وكان سبيله إلى ذلك تغيير السينما التي تُصنع في مصر، فعمل مساعدًا لعدد من المخرجين، من بينهم عباس كامل في فيلم "أنا الدكتور" (1967)، وتوفيق صالح في فيلم "يوميات نائب في الأرياف" (1969). في عام 1968، توجه إلى بولندا في بعثة دراسية لإصقال موهبته، وهناك تتلمذ على أيدي كبار السينمائيين البولنديين، ومنهم المخرج أندريه مونك الذي كان عميدًا لمعهد لودز السينمائي الشهير حيث درس خيري، كما عمل مساعدًا للمخرج يرزي كافاليروفيتش، وعاصر عددًا من أبرز السينمائيين البولنديين مثل أندريه فايدا ويرجي سكوليموفسكي وكريشتوف زانوسي وغيرهم، وهناك أيضًا التقى بالسيدة مونيكا كووالتشيك، وتزوجا في شهر أكتوبر 1969 ثم انتقلا معًا للعيش في مصر، حيث شقته في محل نشأته بحي شبرا. السينما التسجيلية عندما عاد إلى مصر عمل في منصب مدير مساعد، بالإضافة إلى أنه قام بتدريس التمثيل والكتابة، وفي عام 1972 عمل في الفيلم البولندي الشهير "في الصحراء والبراري"، قبل أن يبدأ في السبعينيات تقديم عدد من الأفلام التسجيلية حققت نجاحات كبيرة في المهرجانات الدولية منها "طبيب في الأرياف"، "طائر النورس"، و"تنوير"، و"صائد الدبابات" الذي يروي قصة البطل محمد عبد العاطي، وهو المجند ابن الشرقية، الذي استطاع أن يدمر وحده 23 دبابة إسرائيلية في حرب أكتوبر، وفي الفترة من 1974 إلى 1986 قدّم أكثر 12 فيلمًا من الأفلام الوثائقية والقصيرة بمجموعة متنوعة من المواضيع. المشوار الفني في نهاية السبعينيات قدّم فيلمه الروائي الأول "الأقدار الدامية"، وهو إنتاج مشترك مع الجزائر، حيث بدأ تصويره في عام 1976 وانتهى منه عام 1980 بسبب الأزمات التي تعرض لها والتي واجهته أيضًا عند عرضه، ولم يُعرض جماهيريًا إلا في عام 1982، إذ حاول فيه أن يصور وضع مصر بعد حرب فلسطين 1948، وذلك من خلال تعرضه للتناقض القائم بين طبقتين اجتماعيتين، الطبقة البرجوازية الحاكمة والمالكة، والطبقة العاملة والفلاحين، ومزّج خلاله الجانب التسجيلي من خلال متابعته للحرب، بالجانب الروائي من خلال تصويره للوسطين الأرستقراطي والعامل، وكان من بطولة نادية لطفي، وأحمد محرز، ويحيى شاهين، وأحمد زكي، ومن الجزائر سيد علي كويرات، وفاطمة بلحاج. في عام 1982 قدّم فيلمه الثاني "العوامة رقم 70"، وعبّر من خلاله عن جيل السبعينيات ومشاكله وهمومه، واعتبر النقاد العمل بداية للواقعية الجديدة في السينما المصرية، ليؤسس مخرجه لهذا اللون واستمر كأحد رواده طوال الثمانينيات، قبل ينتقل في بداية التسعينيات لعالم سينمائي أكثر رحابة عبر تقديم أفلام أكثر قربًا من الجمهور مع الاحتفاظ بالقيمة الفنية، وقدّم كوميديا غنائية تسخر من تناقضات الواقع الاجتماعي في أعمال منها "كابوريا" للنجم أحمد زكي، والذي أثار عاصفة نقدية وأقبل عليه الجمهور بحماس شديد، و"آيس كريم في جليم" و"أمريكا شيكا بيكا"، وغيرها من الأفلام التي تمرد فيها على الواقعية الجديدة التي قدّمها في السابق. ساهم في إخراج ما يقارب 30 عملًا روائيًا طويلًا من أفلام الدراما الاجتماعية، التي تلامس قلوب الناس وتحمل بصمته الخاصة الواقعية الشاعرية الراقية، وحصل عليها على العديد من الجوائز المحلية والعالمية، وفي رصيده 3 أعمال ضمن أهم مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية، وهي "الطوق والأسورة" أفضل أفلامه عن رواية يحيى الطاهر عبد الله، وانتقد من خلاله التخلف والعجز الذي يعيشه المواطن العربي، و"يوم مر.. يوم حلو"، الذي يتحدى به الواقعية الكلاسيكية والميلودراما التجارية، ومغامرة "آيس كريم في جليم" بنجمي الغناء الشباب حينها عمرو دياب وسيمون. التكريمات والنهاية لم تقتصر مهارات بشارة الإبداعية على الإخراج فقط، بل امتدت إلى التأليف، له عدة محاولات في الكتابة والسيناريو ذات علامة بارزة في أعماله منها، "حرب الفراولة" (تأليف)، "أمريكا شيكا بيكا" (قصة)، "يوم مر ويوم حلو" (قصة وسيناريو وحوار)، "الطوق والأسورة" (سيناريو وحوار)، "العوامة رقم 70" (قصة)، وعبّر مسيرته السينمائية توج خيري بشارة بعدد ضخم من الجوائز والتكريمات، من بينها الجائزة البرونزية من مهرجان فالنسيا لفيلم "الطوق والأسورة"، وجائزة أحسن ممثلة من أيام قرطاج السينمائية عن "يوم مر.. يوم حلو"، وتنويه خاص من مهرجان "نانت" عن نفس الفيلم، والهرم الفضي من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عن "إشارة مرور"، وغيرها. صاحب ال71 عامًا يقضي حياته حاليًا متنقلًا ما بين الولاياتالمتحدة، حيث يُقيم ابنه وابنته، ومصر حيث يكتفى بإخراج بعض المسلسلات التليفزيونية من حين إلى آخر، أهمها "الزوجة الثانية" (2013)، وآخرها "لعنة كارما" لهيفاء وهبي، رمضان 2018، كما يظهر في بعض الأعمال كضيف شرف، وآخرها في فيلم "بلاش تبوسني" (2018)، وذلك بعد أن توقف عن إخراج الأفلام عمليًا منذ فيلمه "إشارة مرور" (1996)، ولم يُلحقه بتجارب سينمائية أخرى إلا واحدة خافتة بالكاميرات الرقمية في فيلم "ليلة في القمر" (2008). ويظل خيري بشارة أحد أهم مخرجي جيل الواقعية الجديدة في السينما المصرية، جنبًا إلى جنب مع عاطف الطيب ومحمد خان ورأفت الميهي وعلي بدرخان وداوود عبد السيد ويسري نصر الله، وربما يكون أكثرهم جموحًا في موهبته وجرأته في مجال التجريب من داخل الأطر السينمائية التي تهتم بالحبكة والحكاية ذات الدلالات الرمزية.